تشهد مدغشقر واحدة من أعنف الأزمات السياسية منذ أكثر من عقد، بعد أن اضطر الرئيس أندري راجولينا إلى الفرار من البلاد في أعقاب موجة احتجاجات عارمة عمّت العاصمة أنتاناناريفو وعددًا من المدن الكبرى، وانضمام وحدات من الجيش إلى صفوف المتظاهرين، في مشهد يعيد إلى الأذهان الانقلابات السابقة التي هزّت الدولة الجزيرة الواقعة في المحيط الهندي.
فرار على متن طائرة فرنسية
أكد زعيم المعارضة سيتيني راندرياناسولونيايكو أن الرئيس راجولينا غادر البلاد ، بعد أن فقد السيطرة على الأجهزة الأمنية وتخلى عنه كبار القادة العسكريين الذين رفضوا أوامر إطلاق النار على المتظاهرين.
وقال مصدر عسكري رفيع إن عملية خروج الرئيس تمت بمساعدة فرنسية مباشرة، حيث أقلته طائرة نقل تابعة لسلاح الجو الفرنسي من نوع “كازا”، بعد أن نُقل بمروحية من العاصمة إلى مطار سانت ماري، تمهيدًا لمغادرته البلاد دون اشتباكات تُذكر.
ورجحت مصادر دبلوماسية أن هذا الترتيب جاء بموجب اتفاق غير معلن بين باريس وراجولينا، أبرمه مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في محاولة لتجنيب البلاد حمام دم، والحفاظ على المصالح الفرنسية في الجزيرة الغنية بالثروات الطبيعية.
الرئيس يطلّ من المجهول
وفي أول ظهور له بعد اختفائه، خرج راجولينا بخطاب مقتضب عبر صفحته على فيسبوك قال فيه إنه "في مكان آمن" بعدما تعرّض لمحاولة اغتيال، دون أن يحدد موقعه أو الجهة التي يقيم فيها.
وأكد في كلمته أنه "لن يتخلى عن مسؤوليته"، داعيًا إلى احترام الدستور وعدم الانجرار إلى الفوضى، رغم تصاعد الدعوات المطالبة بتنحيه.
لكن خطابه بدا منفصلًا عن الواقع المشتعل في الشوارع، حيث يواصل المتظاهرون حشودهم اليومية، فيما تتحدث المعارضة عن "نهاية حقبة راجولينا" وسقوط نظامه فعليًا مع فقدانه السيطرة على الجيش والإدارة.
شرارة الغضب: الماء والكهرباء تتحولان إلى ثورة
بدأت شرارة الاحتجاجات في 25 سبتمبر الماضي بسبب أزمة حادة في إمدادات المياه والكهرباء، سرعان ما تحولت إلى انتفاضة شعبية ضد الفساد وسوء الإدارة وغلاء المعيشة. قاد الحراك ما يُعرف بـ"جيل زد" — وهو الجيل الشاب المولود بين عامي 1997 و2012 — الذي استخدم وسائل التواصل الاجتماعي كمنصة للتنظيم والتعبئة، رافعًا شعار "الكرامة أولًا".
امتلأت الساحة الرئيسية في العاصمة بعشرات الآلاف من المحتجين، معظمهم من الطلبة والعاطلين عن العمل، مطالبين بإصلاحات سياسية واقتصادية عاجلة، وبإنهاء ما وصفوه بـ"نظام المحسوبية والنهب الممنهج".
وردّت الشرطة بإطلاق الغاز المسيل للدموع، لكن الانعطافة الحاسمة جاءت عندما انضمت وحدة "كابسات" العسكرية — التي كانت قد لعبت دورًا رئيسيًا في انقلاب 2009 الذي أوصل راجولينا نفسه إلى السلطة — إلى صفوف المحتجين، معلنة رفضها تلقي أوامر باستخدام القوة.
هذا التحول قلب موازين الأزمة، وجعل بقاء الرئيس في الحكم أمرًا مستحيلًا سياسيًا وعسكريًا.
جيل التغيير.. من النيبال إلى مدغشقر
تأتي انتفاضة مدغشقر بعد أسابيع من احتجاجات مشابهة شهدتها النيبال، قادها أيضًا "جيل زد"، ضد الفقر والفساد واحتكار النخب السياسية للسلطة والثروة.
ويُوصف هذا الجيل بأنه الأكثر اتصالًا وتحررًا فكريًا في تاريخ القارة، فهو جيل "رقمي أصلي" لم يعرف عالمًا بلا إنترنت، ويتقن استخدام التكنولوجيا لبناء وعي جماعي ومساءلة السلطة خارج المنابر الرسمية والإعلام التقليدي.
في مدغشقر، حيث يعيش أكثر من 75% من السكان تحت خط الفقر، وجد هذا الجيل في الشوارع وسائطه الجديدة للتعبير عن الغضب والتمرد على واقعٍ اقتصادي خانق، وأجور هزيلة، وخدمات عامة منهارة. وبذلك، لا تبدو الأزمة مجرد احتجاجات معيشية، بل ثورة جيل يبحث عن مستقبل مختلف.
البلاد على مفترق طرق
مع اختفاء الرئيس وتفكك السلطة المركزية، تقف مدغشقر اليوم على مفترق خطير: إما انتقال سلمي للسلطة يقوده الجيش بالتنسيق مع المعارضة، أو انزلاق نحو فراغ سياسي قد يعيد البلاد إلى دوامة الانقلابات التي عانت منها طوال العقود الماضية.
وفيما يراقب المجتمع الدولي الموقف بحذر، تبقى الصورة الأوضح أن شعب مدغشقر — وعلى رأسه الشباب — كسر حاجز الخوف وخرج للمطالبة بوطن يستحق الحياة. أما الرئيس الهارب، فربما يمثل آخر فصل في قصة نظامٍ فشل في الإصغاء لغضب شعبه، حتى وجد نفسه خارج حدوده... وخارج التاريخ.