محمد منصور : 

تُوفي أبٌ لثلاثة أبناء تاركاً لهم داراً مكونة من ثلاثة طوابق ولكن لا يوجد سلم للانتقال فيما بينهم ؛ فقال أولهم : الحمد لله على كل حال و رضي بالأمر الواقع ، و أما الثاني فقال : لكل منا طابق يمكن أن يسكنه و لكن نحتاج إلى سلم ؛ فتعالوا نجتهد في الدعاء ؛ فعندي أمل في الله كبير أن يبعث من يبنيه لنا ، و أما الثالث فقال : البيت ملك لنا ؛ فَلِمَ نرضى العيش هكذا ؟؟؟ و لدي خطة لبناء السلم على أن يشارك كل منا قدر استطاعته بالجهد و المال و نبدأ البناء على بركة الله .

وقد كان هذا ما فعله حسن البنا بعد سقوط الخلافة سنة 1924 م و غياب ذلك الرمز الذي وحد المسلمين قرونا طويلة وصار الناس كالشياه في ليلة مطيرة وقد فقدت راعيها ؛ فقسَّم أعداؤنا تركة دولة الخلافة  ـ الرجل المريض ـ كما ورد في معاهدة سايكس بيكو ، و حاربوا اللغة العربية حتى يصبح القرآن طلاسم ؛ فيعجز المسلمون عن فهمه ؛ فينبتوا عن أصلهم ، كما تم إلغاء المحاكم الشرعية و طبقوا القوانين العلمانية .

وتباينت ردود فعل المسلمين ؛ إذ بقدر عظم المصيبة بقدر ما كانت ردود أفعال المخلصين والذين رأوا آخر قلاعهم و هي تتهاوي ثم تتقاسم تركتها الأمم ؛ لتنشئ واقعا جديدا مغايرا تماما لمواصفات الأمة الواحدة ، يرتكز على هوية جديدة عمادها الإقليمية و العصبية و زرع العداوة و البغضاء بين وحدات هذا الواقع الجديد و تبني مناهج بعيدة كل البعد عن المنهج الرباني الواحد الذي كان أساس الأمة الإسلامية منذ عهد الرسول ـ صلى الله علليه و سلم ـ و الذي منع من سقوط الرمز برغم فترات الضعف و الخلل الذي أصاب كيان هذه الأمة السياسي في فترات تاريخية.

تباينت ردود فعل المسلمين ؛ فمنهم من رضى بالأمر الواقع و لم يفعل شيئا ، و منهم من ارتمى في أحضان العدو ، و منهم من تخيل الحل في اللجوء إلى الله دون أن يقوم بعمل شيء إلا الدعاء ( اللهم مكن لدينك ، اللهم أهلك الظالمين بالظالمين و أخرجنا من بين أيديهم سالمين ) و منهم حسن البنا الذي أوجد الحل لما أصاب المسلمين ؛ بإعادة الأمور إلى نصابها ؛ فأطلق نور القرآن المبين و السنة الصافية ليضيء للناس الطريق ولذا كانت دعوة الاخوان من أنضج الدعوات إدراكا و شمولا لمعاني الإسلام التي أفرزتها مأساة سقوط الخلافة الاسلامية العثمانية بحيث عدها المؤرخون الرد الطبيعي الأول للأمة على هذه المأساة .

ففي رسالة الى الشباب سنة 1941م يقول البنا :

( لقد أتي على الإسلام و المسلمين حين من الدهر توالت فيه الحوادث و تتابعت فيه الكوارث و عمل خصوم الإسلام على إطفاء رواقه و إخفاء بهائه و تضليل أبنائه و تعطيل حدوده و إضعاف جنوده و تزييف معالمه و أحكامه ، تارة بالنقص منها و أخرى بالزيادة فيها و ثالثة بتأويلها على غير وجهها و ساعدهم على ذلك ضياع سلطة الإسلام السياسية و تمزيق إمبراطوريته العالمية و تسريح جيوشه المحمدية و وقوع أممه في قبضة أهل الكفر مستذلين مستعمرين ).

و لكن السؤال المطروح  : هل أتي حسن البنا بإسلام جديد ؟؟؟

  و الإجابة بالنفي ؛ إذ البنا لم يأت بدين جديد و لا فقه جديد ؛ إنما فهم الإسلام و الإسلام لا يتغير و فهم السنن الربانية و السنن لا تتغير و فهم الصراع و الصراع واحد بين الحق و الباطل و بجانب هذا فهم واقع المسلمين في هذا العصر الذي كان يعيشه و عرف أعداء الإسلام و كيف يكيدون لهذا الدين ؟ و ما هي وسائلهم ؟ و ما هي غاياتهم ؟ و أدرك خططهم و بالتالي واجههم بتخطيط يكافئه بعدما بيَّن كيف يعود الإسلام بالمسلمين الى الطريق المستقيم ؟ بعدما كشف للناس عن دعوة الإخوان المسلمين وعن إسلامهم و العودة بهم إلى وظيفتهم الأصلية وغايتهم السامية و طريق الوصول.

و قال لهم : ( لا تيأسوا ؛ فليس اليأس من أخلاق المسلمين و حقائق اليوم أحلام الأمس و أحلام اليوم حقائق الغد و لا زال في الوقت متسع و لا زالت عناصر السلامة قوية عظيمة في نفوس شعوبكم المؤمنة رغم طغيان مظاهر الفساد و الضعيف لا يظل ضعيفا طول حياته و القوي لا تدوم قوته أبد الآبدين ؛ فاستعدوا و اعملوا اليوم فقد تعجزون عن العمل غدا ).

 ( وحرص رحمة الله على إيقاظ الوعي و الشعور بفرضية إقامة الحكم الإسلامي إذ هو الغاية من تحرير الوطن ؛ ذلك أن طرد المستعمر و تحرير الوطن من نيره واستعباده ليس هدفا في ذاته ، إنما هو وسيلة لتحقيق هدف كبير هو أن تحقق الامة ذاتها و تعيش بعقيدتها و لعقيدتها و تدير أمر وطنها وفق عقائدها و قيمها و فلسفتها الخاصة ) د/ يوسف القرضاوي

و من هنا بدأ البنا إعادة تشكيل و ترتيب الأفكار داخل العقل المسلم ؛ ليعطي الفرصة كاملة لظهور الفكرة الإسلامية في صورة نقية ماسية كما يحدث لذرة الكربون حين يتغير التركيب الهندسي للذرات داخل الجزيء بطريقة معينة فيكون من ذلك إما الفحم أو الجرافيت أو الماس .

و ترى ذلك في تعريفه للإسلام في هذا الوقت إذ يقول:

( الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا ؛ فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة وهو مادة وثروة أو كسب وغنى وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة كما أنه عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء) . رسالة التعاليم

و للحديث بقية ..................