في قلب كارثة إنسانية غير مسبوقة، يلفظ القطاع الصحي في قطاع غزة أنفاسه الأخيرة، بعد أن حوّلته الحرب إلى أطلال وباتت مستشفياته إما ركاماً أو ملاجئ مكتظة بالجرحى والمرضى الذين ينتظرون مصيراً مجهولاً. لم يعد الأمر مجرد نقص في الموارد، بل هو انهيار كامل لمنظومة كانت بالكاد تصمد. مع خروج معظم المستشفيات والمراكز الطبية عن الخدمة، وتكدس مئات آلاف المصابين، ونفاد الأدوية المنقذة للحياة، يطلق الأطباء والمسعفون نداء استغاثة للعالم: غزة تحتضر، والوقت ينفد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
قائمة الاحتياجات الطبية الطارئة
تتجاوز الاحتياجات مجرد طلب للمساعدات، لتصبح قائمة بقاء عاجلة. تتصدر الأولويات:
- الإجلاء الطبي الفوري: هناك أكثر من 15,600 مريض وجريح بحالات حرجة يحتاجون إلى الخروج فوراً من القطاع لتلقي علاج متخصص لا يمكن توفيره في ظل الإمكانيات الحالية.
- مستشفيات ميدانية وعيادات متنقلة: كحل طارئ لتقديم الخدمات في المناطق التي دُمرت فيها المرافق الصحية بالكامل، وللوصول إلى النازحين.
- معدات جراحية وعلاج الصدمات: الحاجة ماسة لأجهزة التخدير، ومستلزمات العمليات الجراحية المعقدة، ومعدات علاج الحروق المتقدمة وإصابات النخاع الشوكي.
- مهمات إعادة التأهيل: هناك نقص خطير في الكراسي المتحركة، الأطراف الصناعية، وأدوات العلاج الطبيعي لمساعدة عشرات الآلاف الذين أصيبوا بإعاقات دائمة.
- وقود ومياه نظيفة: الوقود ضروري لتشغيل المولدات الكهربائية في المستشفيات المتبقية، بينما تمثل استعادة المياه النظيفة وشبكات الصرف الصحي أساساً لمنع تفشي الأوبئة.
بنية تحتية تحت الأنقاض
حجم الدمار الذي لحق بالقطاع الصحي صادم. من أصل 36 مستشفى في غزة، لم يتبق سوى 14 تعمل بشكل جزئي وبطاقة استيعابية متدنية، بينما خرج 22 مستشفى عن الخدمة تماماً بسبب التدمير أو الإخلاء القسري. وفي مدينة غزة وحدها، التي تشكل "العمود الفقري" للنظام الصحي، توقفت 16 نقطة طبية و11 مركزاً للرعاية الصحية الأولية عن العمل. أما على مستوى القطاع ككل، فلم يعد يعمل سوى ثلث مراكز الرعاية الصحية الأولية البالغ عددها 176 مركزاً.
أزمة أدوية ومستلزمات خانقة
وصل النقص في الأدوية إلى مستويات كارثية، مما أجبر السكان على اللجوء إلى الأعشاب والطب البديل كخيار وحيد لتسكين الآلام أو علاج الأمراض. تشمل الأدوية المطلوبة بشكل عاجل خلال الأشهر الثلاثة المقبلة:
- الأدوية المنقذة للحياة: مثل أدوية التخدير، والمضادات الحيوية، والمسكنات القوية، ومحاليل التغذية الوريدية.
- أدوية الأمراض المزمنة: يعاني 300 ألف مريض مزمن من تهديد مباشر لحياتهم بسبب نفاد أدوية القلب، والسكري، والسرطان، وأمراض الكلى.
- المستلزمات الطبية: وتشمل مواد الفحص المخبري، وحدات الدم، ومستلزمات تضميد الجروح، ومواد التعقيم.
فجوة هائلة في الكوادر البشرية
فقد القطاع الصحي أكثر من 1,700 من كوادره منذ بدء الحرب، بالإضافة إلى اعتقال المئات. وتشير التقديرات إلى حاجة ماسة لمئات الأطباء والممرضين من الخارج لدعم الطواقم المحلية المنهكة. تتركز الحاجة في التخصصات التالية:
- جراحو الطوارئ والعظام والتجميل: لإجراء العمليات الجراحية المعقدة للمصابين.
- أطباء التخدير والعناية المركزة: لإدارة الحالات الحرجة في المستشفيات.
- أخصائيو الأوبئة والصحة العامة: لمواجهة خطر انتشار الأمراض المعدية.
- أخصائيو الدعم النفسي: للتعامل مع الصدمات النفسية واسعة النطاق بين السكان والكوادر الطبية.
خريطة طريق لإعادة الإعمار
تقدر منظمة الصحة العالمية تكلفة إعادة بناء القطاع الصحي في غزة بأكثر من 7 مليارات دولار. وتتطلب الخطة نهجاً متكاملاً على مراحل:
- مرحلة الاستجابة الطارئة (3-6 أشهر): تركز على إعادة تشغيل الخدمات الأساسية عبر المستشفيات الميدانية، وتوفير الأدوية والمعدات العاجلة، وتقييم سريع لحجم الأضرار.
- مرحلة التعافي وإعادة البناء: تتضمن إعادة بناء وتأهيل المستشفيات والمراكز الصحية المدمرة، وإعادة فتح الكليات الطبية لتدريب كوادر جديدة.
- التمويل: يعتمد بشكل كبير على المانحين الدوليين مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي (الذي يستعد لتمويل الإعمار بـ 5 مليارات يورو) ودول الخليج، بالإضافة إلى المؤسسات المالية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. كما ظهرت مبادرات غير تقليدية مثل إعلان كولومبيا إرسال ذهب مصادر من تجار المخدرات لتمويل الرعاية الصحية في غزة.
إن إعادة بناء الحجر لن يكفي ما لم يتم الاستثمار في البشر ورفع الحصار لضمان تدفق مستمر للمساعدات والخبرات. فكل يوم تأخير يعني المزيد من الوفيات التي يمكن تجنبها، ويزيد من عمق جراح مجتمع بأكمله