في زيارة وُصفت بالتاريخية والمفصلية، حطّ الرئيس السوري أحمد الشرع في موسكو لعقد أول لقاء مباشر له مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ توليه رئاسة السلطة الانتقالية في سوريا. حمل الشرع في جعبته ملفات ثقيلة ومعقدة، في محاولة لإعادة تعريف ورسم ملامح العلاقة بين دمشق والكرملين في مرحلة ما بعد بشار الأسد، والانتقال بها من علاقة كانت قائمة على حماية شخص ونظام، إلى علاقة استراتيجية بين دولتين تقوم على الندية والمصالح المشتركة.

تأتي هذه الزيارة، التي تُعد الأهم للشرع منذ توليه منصبه، لتتوج سلسلة من التحركات الدبلوماسية بين الجانبين، وتهدف إلى وضع أسس لمستقبل العلاقات السورية-الروسية في ظل متغيرات جذرية شهدتها الساحة السورية.

 

ملفات ساخنة على طاولة الكرملين

ناقش الرئيسان الشرع وبوتين مجموعة من القضايا الاستراتيجية التي ستحدد شكل العلاقة المستقبلية بين البلدين، ويمكن تلخيص أبرزها في المحاور التالية:

مستقبل الوجود العسكري الروسي: كان ملف القاعدتين العسكريتين الروسيتين في حميميم وطرطوس على رأس جدول الأعمال. أكد الشرع لبوتين التزام دمشق بجميع الاتفاقات الموقعة سابقًا، في رسالة طمأنة لموسكو بأن مصالحها الاستراتيجية في سوريا، التي تعتبرها نقطة ارتكاز جيوسياسي واقتصادي في شرق المتوسط، لن تتأثر بالتغيير السياسي في دمشق.

إعادة بناء وتسليح الجيش: طلب الوفد السوري دعمًا روسيًا لإعادة هيكلة وتسليح الجيش السوري، مع تركيز خاص على أنظمة الدفاع الجوي المتقدمة. تهدف دمشق من خلال هذا الطلب إلى بناء مؤسسة عسكرية وطنية قوية قادرة على بسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحماية سيادتها.

مطلب تسليم بشار الأسد: حمل الشرع إلى موسكو المطلب الأكثر حساسية ورمزية للشعب السوري، وهو تسليم الرئيس السابق بشار الأسد، الذي لجأ إلى روسيا، لمحاكمته في سوريا على الجرائم المرتكبة خلال فترة حكمه. وعلى الرغم من أن دمشق تعتبر هذا الملف "أهم من كل الملفات الأخرى"، إلا أن الرد الروسي جاء متحفظًا. فقد وصف مسؤولون روس المطلب بـ"الغريب"، مؤكدين أن موسكو منحته اللجوء لدواعٍ إنسانية ومن غير المرجح أن تسلمه، خشية تعرضه للتصفية وما قد يمثله ذلك من تناقض مع مبادئ حقوق الإنسان. يرى محللون أن هذا الملف قد يبقى ورقة تفاوض سياسية، وأن مساره القانوني الرسمي قد يكون عبر محكمة الجنايات الدولية .

أمن الجنوب السوري: في ظل الغارات الإسرائيلية المتكررة وتراجع الدور الروسي في الجنوب السوري خلال السنوات الأخيرة، طرح الشرع مقترحًا بإعادة نشر الشرطة العسكرية الروسية في المنطقة. تهدف هذه الخطوة إلى إيجاد "مظلة أمنية روسية" جديدة تعمل كضامن لمنع الخروقات الإسرائيلية، وإعادة إحياء اتفاق فصل القوات لعام 1974، وهو ما يعكس رغبة دمشق في الاستعانة بموسكو لاستعادة الحضور وضبط قواعد الاشتباك.

التعاون الاقتصادي وإعادة الإعمار: شملت المباحثات أيضًا آفاق مشاركة الشركات الروسية في مشاريع إعادة إعمار البنية التحتية المدمرة، بالإضافة إلى التعاون في مجالات الاستثمار والطاقة.

 

دلالات الزيارة ومغزاها الاستراتيجي

تتجاوز زيارة الشرع لموسكو كونها لقاءً بروتوكوليًا، لتحمل في طياتها دلالات عميقة ترسم معالم السياسة السورية الجديدة وتختبر نوايا روسيا في المرحلة المقبلة.

أولاً، تُمثل الزيارة إعلانًا واضحًا عن دبلوماسية سورية جديدة تسعى لبناء "علاقات متوازنة لا تقوم على الاصطفافات". فالقيادة السورية الجديدة، مع تأكيدها على عمق العلاقات التاريخية مع روسيا، تسعى في الوقت ذاته إلى تنويع شراكاتها والانفتاح على القوى الغربية والخليجية، مما يمنحها هامشًا أوسع للمناورة السياسية واستقلالية في القرار.

ثانيًا، تُظهر الزيارة البراغماتية الروسية في التعامل مع الواقع الجديد. فبعد أن خسرت موسكو رهانها على نظام الأسد، تسعى الآن لتأمين مصالحها الحيوية مع حكومة تملك شرعية داخلية ودولية . لقد تحول التركيز الروسي من حماية شخص على حساب الدولة، إلى التركيز على المصالح الاقتصادية والعسكرية والبنية التحتية مع الدولة السورية نفسها.

ثالثًا، تُعد الزيارة "لحظة فارقة" واختبارًا حقيقيًا للنوايا بين الطرفين. ففيما تسعى دمشق لإعادة ضبط العلاقة على أساس الندية والاحترام المتبادل، ومحاسبة رموز النظام السابق، تتعامل موسكو مع الملفات بحسابات استراتيجية دقيقة، خصوصًا فيما يتعلق بملف الأسد والوجود العسكري.

في المحصلة، أسست زيارة الشرع لمرحلة جديدة من العلاقات السورية-الروسية، تنتقل بها من التبعية إلى المصالح المشتركة، ومن الهيمنة إلى التفاهم . وبينما يبقى ملف تسليم الأسد عالقًا في المسارات القانونية والسياسية، تتجه العلاقات بين البلدين نحو التركيز على إعادة بناء الدولة السورية، وتوظيف الإمكانيات الروسية لدعمها، وهو ما يفتح آفاقًا جديدة لمستقبل سوريا بعيدًا عن نزاعات الماضي .