الأشخاص الذين يتمتعون بدرجات عالية من سمة "الضمير" وهي إحدى السمات الخمس الكبرى للشخصية، يميلون إلى التنظيم والالتزام والتخطيط المسبق. هؤلاء غالبًا ما يصلون في الوقت المحدد.

 

يجد كثيرون أنفسهم يصلون متأخرين مهما حاولوا الالتزام بالمواعيد، في حين يبدو آخرون قادرين على ضبط وقتهم بدقة. ورغم الاعتقاد الشائع بأن التأخر انعكاس لعدم الانضباط أو قلة المسؤولية، تشير الأبحاث الحديثة إلى أن المسألة أكثر تعقيدًا، وترتبط بطريقة إدراك الوقت، والسمات الشخصية، والإيقاع البيولوجي، وحتى ببعض الاختلافات العصبية. ومع توسّع الدراسات في السلوك البشري، بات من الواضح أن علاقة الناس بالوقت ليست واحدة، وأن أسباب التأخر المزمن متعددة ومتداخلة.

 

وهم التخطيط المثالي

 

تحدث كثير من حالات التأخير نتيجة ما سماه علماء النفس دانيال كانيمان وآموس تفيرسكي قبل عقود بـ"مغالطة التخطيط". يميل الإنسان بطبيعته إلى الاعتقاد بأن خطته ستسير دون عوائق، وأن المهمة التي تحتاج عشرين دقيقة يمكن إنجازها في نصف هذا الوقت، وأن الطريق سيكون أكثر سلاسة مما هو عليه عادة. هذا التفاؤل المفرط يجعل التقديرات غير واقعية، فيظهر التأخير كنتيجة طبيعية لهذا الخلل في تقدير الزمن.

 

ورغم أن الجميع تقريبًا يقع في هذه المغالطة بدرجات مختلفة، ينزلق البعض إليها بشكل متكرر، ما يجعلهم يخطئون في حساب وقت المغادرة ويصلون متأخرين. وتُظهر الأبحاث أن الأشخاص الذين يميلون إلى تقليل الوقت المطلوب لأي مهمة يفترضون أيضًا أنهم قادرون على تسريع كل خطوة، فيتركون لأنفسهم هامشًا ضيقًا، ما يضاعف فرص التأخير.

 

الشخصية ودورها في تشكيل العلاقة بالوقت

 

تلعب السمات الشخصية دورًا مهمًا في السلوك الزمني. فالأشخاص الذين يتمتعون بدرجات عالية من سمة "الضمير" وهي إحدى السمات الخمس الكبرى للشخصية، يميلون إلى التنظيم والالتزام والتخطيط المسبق. هؤلاء غالبًا ما يصلون في الوقت المحدد لأنهم يبنون عادات تساعدهم على إدارة تفاصيل يومهم بدقة.

 

في المقابل، يعاني الذين يسجلون درجات منخفضة في هذه السمة من صعوبة في ترتيب المهام، وضعف في المتابعة، وبشكل عام علاقة أقل صلابة بالوقت. وهذا لا يعني أنهم غير مبالين، بل إن طبيعتهم تجعلهم أقل ميلًا للبناء الزمني الصارم الذي يساعد على الوصول في الموعد.

 

تعدد المهام: عندما تتقدم اللحظة على الساعة

 

يميل بعض الناس إلى ممارسة أكثر من مهمة في الوقت نفسه، فينتقلون بسرعة بين محادثة ورابط إلكتروني وفكرة تظهر فجأة. هذا النمط المعروف بـ"التعدد الزمني" يجعل الوقت لديهم مرنًا وغير مُسيّر بالساعة بقدر ما هو مرتبط بالتفاعل واللحظة.

 

أظهرت أبحاث أن هؤلاء قد يتأخرون حتى 15 دقيقة في المتوسط مقارنة بالأشخاص الذين يعتمدون أسلوب "مهمة واحدة في كل مرة". وغالبًا ما يعتبرون أن إنهاء محادثة أو لحظة اجتماعية أهم من الالتزام الدقيق بالموعد، خصوصًا في البيئات الثقافية التي تعطي للعلاقات أولوية على النظام الزمني الصارم.

 

لكن المشكلة تظهر حين يعيش هذا الشخص أو يعمل في بيئة تتبنى دقة عالية في المواعيد، فيُفهم هذا الأسلوب على أنه تقصير، بينما هو في جوهره اختلاف في طريقة التعامل مع الوقت.

 

الإيقاع البيولوجي: ساعة داخلية لا تشبه الآخرين

 

يتوافق البشر في الكثير من صفاتهم، لكن "ساعة أجسامهم" ليست واحدة. فالأشخاص ذوو النمط الليلي أو ما يعرف بـ"البوم الليلي" ينامون متأخرين ويستيقظون بصعوبة. أظهرت بحوث في علم الأحياء الزمني أن هؤلاء يعانون من تأخر في إفراز الميلاتونين، ما يجعل الصباح تحديًا يوميًا. هذا الخلل البيولوجي يؤدي إلى الاستيقاظ ببطء شديد، ومن ثم إلى التأخر عن المواعيد الصباحية أو الارتباك خلال النهار.

 

وليس الأمر مقتصرًا على الصباح. فقد تبيّن أن هذا الاختلاف ينعكس على التخطيط طوال اليوم، ويجعل الالتزام الزمني أكثر صعوبة مما يبدو للآخرين.

 

العمى الزمني

 

تتجاوز بعض حالات التأخر الجانب السلوكي لتصل إلى أساس عصبي. فالأشخاص المصابون باضطرابات مثل ADHD أو التوحد أو بعض صعوبات التعلم قد يختبرون ما يعرف بـ"العمى الزمني"، وهي حالة تجعل إدراك مرور الوقت أقل دقة، فيختفي الزمن أثناء التركيز في مهمة ما من دون أن يشعر الشخص بذلك.

 

تُظهر الأبحاث أن هؤلاء يميلون إلى تقدير الوقت بشكل خاطئ، ويواجهون صعوبة في الانتقال بين المهام، ويعانون من ضعف في وضع جدول زمني واضح، ما يؤدي في النهاية إلى الوصول المتأخر.

 

كيف يمكن تحسين الالتزام بالمواعيد؟

 

رغم تنوع الأسباب، يؤكد الباحثون أن التأخر قابل للتحسّن. لا يحتاج الأمر إلى تغيير جذري في الشخصية، بل إلى تعديلات صغيرة في العادات اليومية: وضع منبه إضافي، مضاعفة الوقت المخصص للمهام المتوقعة، تجهيز متطلبات اليوم في الليلة السابقة، أو كتابة خطوات الوصول لمكانٍ ما بمنطق واضح ومحدد.

 

وينصح المختصون أيضًا بمنح الآخرين بعض التفهم، لأن تجربة الوقت ليست واحدة لدى الجميع. قد يكون شخص ما دقيقًا بالفطرة، بينما يعيش آخر يومه في إيقاع مختلف، لا يراه إلا عندما يفوته.