في كارثة جديدة تضرب أمن مصر الغذائي وتكشف هشاشة منظومة الثروة الحيوانية في ظل حكم الانقلاب، استيقظت محافظة المنوفية على مأساة حقيقية يعيشها صغار المربين والفلاحين.

 

"نفوق 500 رأس ماشية" خلال أقل من شهر واحد في قرى مثل "تلبنت أبشيش" و"قورص" ليس مجرد خبر عابر، بل هو إعلان وفاة لمصدر رزق مئات الأسر التي وجدت نفسها فجأة أمام جثث حيواناتها ملقاة في المصارف والترع، أو مضطرة لبيعها "مريضة" للجزارين بأسعار بخسة قبل أن تموت، لتنتقل الكارثة من الحظائر إلى بطون المصريين.

 

وبينما تتصاعد استغاثات الأهالي من تفشي وباء "الحمى القلاعية" ومتحوراته الجديدة، تخرج الهيئة العامة للخدمات البيطرية ببيانات "نفي وتكذيب" معتادة، مدعية أن الوضع آمن وأن الإصابات "فردية"، في استخفاف واضح بعقول المواطنين وآلامهم. وكأن الحكومة تنتظر أن ينفق آخر رأس ماشية في مصر لتعترف بأن هناك أزمة وباء وسوء إدارة.

 

500 رأس في شهر.. "خراب بيوت" مستعجل

 

التقارير الواردة من قلب الريف المنوفي تكشف حجم المأساة. فلاحون فقدوا "شقا عمرهم" في أيام معدودة؛ عجول وأبقار تسقط صرعى بمرض غامض (أعراضه تشبه الحمى القلاعية ومتحوراتها الجديدة)، دون أن يجدوا طبيبًا بيطريًا واحدًا ينقذ ما يمكن إنقاذه، أو دواءً فعالًا يوقف النزيف.

 


نفوق هذا العدد الضخم في قرية واحدة أو مركز واحد (قويسنا) هو مؤشر خطير على أن الوباء خرج عن السيطرة، وأن حملات التحصين التي تتغنى بها الوزارة إما أنها فاسدة، أو أنها لم تصل لمستحقيها، أو أن الفيروس تحور بشكل يفوق قدرة اللقاحات الحالية، وهو ما حذرت منه تقارير سابقة عن دخول عترات جديدة (SAT1) عبر شحنات مستوردة دون رقابة.



 

الحكومة: "كله تمام".. والواقع: "كارثة صحية"

 

رد الفعل الرسمي جاء كالعادة مخيبًا للآمال ومستفزًا. الدكتور حامد الأقنص، رئيس الهيئة العامة للخدمات البيطرية، سارع لنفي الأرقام، مؤكدًا تسجيل "حالتين فقط" في المنوفية! هذا الإنكار الحكومي المفضوح يمثل جريمة في حق المجتمع؛ فبدلاً من إعلان الطوارئ ومحاصرة البؤر المرضية، تختار الحكومة دفن رأسها في الرمال، مما يسمح بانتشار العدوى للمحافظات المجاورة.

 

الأخطر من ذلك هو ما كشفته التحقيقات عن قيام بعض المربين ببيع الماشية المريضة للجزارين، وضبط حالات ذبح مواشي مصابة بـ"التهاب رحمي حاد" في شبين الكوم. هذا يعني أن لحوم هذه الحيوانات المريضة قد تكون وصلت بالفعل لموائد المواطنين، تحت سمع وبصر الأجهزة الرقابية الغائبة.

 

إهمال حكومي وغياب التعويضات

 

تكمن المأساة الحقيقية في أن الفلاح المصري يقف وحيدًا في هذه المعركة. فالدولة رفعت يدها عن الدعم البيطري، وتركت الوحدات البيطرية خاوية من الأطباء والإمكانيات. وحين تقع الكارثة، يكتشف المربي أن "صندوق التأمين على الماشية" هو مجرد حبر على ورق، وأن التعويضات لا تُصرف إلا بشق الأنفس وبعد إجراءات بيروقراطية معقدة، وغالبًا لا تغطي ربع الخسارة.

 

إلقاء اللوم على الفلاحين بدعوى "عدم التحصين" هو شماعة حكومية جاهزة للهروب من المسؤولية. فمن المسؤول عن توفير اللقاحات الفعالة؟ ومن المسؤول عن مراقبة الأسواق ومنع دخول العجول المريضة المستوردة التي نقلت العدوى؟

 

تدمير ممنهج للثروة الحيوانية

 

إن ما يحدث في المنوفية هو صورة مصغرة لما آلت إليه أحوال الثروة الحيوانية في مصر. سياسات النظام التي تعتمد على الاستيراد وتهميش المنتج المحلي، مع غياب الرقابة البيطرية، قادتنا إلى هذا النفق المظلم.

 

الفلاح اليوم يخير بين أمرين: إما مشاهدة ماشيته تموت أمامه، أو بيعها للموت لغيره. وفي الحالتين، الخاسر هو الوطن والمواطن، والرابح الوحيد هم مافيا الاستيراد ومن يغضون الطرف عنهم في أروقة الحكومة الفاشلة.