تصرّ سلطات الانقلاب على تحويل ملف “تمكين المرأة” إلى ديكور دعائي، بينما تُغلق في الواقع آخر المنافذ القليلة أمام النساء الفقيرات والناجيات من العنف، عبر استخدام وزارة التضامن الاجتماعي كأداة أمنية لخنق الجمعيات المستقلة وعلى رأسها مؤسسة قضايا المرأة المصرية. ما يجري ليس خلافًا إداريًا عابرًا، بل حلقة جديدة في مسلسل إعدام المجتمع المدني وتجريم أي عمل حقوقي خارج سيطرة أجهزة السيسي.

 

ومنذ مطلع العام الحالي تتعرض مؤسسة قضايا المرأة المصرية لسلسلة متكررة من قرارات رفض المشروعات المقدَّمة إلى وزارة التضامن رغم استيفائها كل الشروط القانونية، وموجّهة أساسًا إلى النساء الفقيرات والمعنَّفات بنسبة 70% من المستفيدين، و30% من الرجال الفقراء أو المحتاجين للدعم. المؤسسة اضطرّت إلى مخاطبة رئيس الجمهورية ورئاسة الوزراء بخطابات رسمية بعد أن رفضت الوزارة ثلاثة مشروعات كاملة وسوّفت الرد على مشروع رابع حتى سحبت الجهة المانحة تمويله نهائيًا، في خطوة تهدد بإغلاق جمعيات فاعلة وخسارة فرص دعم لآلاف النساء.

 

مشاريع مرفوضة بلا مبرر

 

المحامية بالنقض والمديرة التنفيذية المشاركة للمؤسسة، سهام علي، توضح أن الرد الرسمي من التضامن يأتي في جملة واحدة: “تم رفض المشروع” دون أي تسبيب أو ملاحظات فنية، رغم التزام المؤسسة بعدم تحصيل جنيه واحد من أي جهة تمويلية قبل الحصول على موافقة مكتوبة من الوزارة وفقًا للقانون. المشروعات المرفوضة كانت تستهدف تقديم خدمات دعم اجتماعي ونفسي وقانوني وتوعية لقرابة عشرة آلاف امرأة، عبر مراكز مساعدة قانونية وأنشطة لمكافحة العنف والتمييز، لكن قرار الموظف حرم هؤلاء النساء من حقهن في هذا الدعم من دون سبب مفهوم أو قابل للطعن الجاد.

 

هذا الرفض غير المسبب يكشف أن الهدف الحقيقي ليس “ضبط التمويل” كما تزعم الحكومة، بل تقليص مساحات العمل الأهلي المستقل، وتحويل الجمعيات إلى مقاول من الباطن لوزارة التضامن أو للجهات المانحة الرسمية التي لا تقترب من الملفات الحقوقية الحساسة مثل العنف الأسري، والتحرش، والتمييز في العمل.

 

 

تحايل على قانون الجمعيات لخدمة القبضة الأمنية

 

مؤسسة قضايا المرأة تؤكد في بيانها أن الوزارة تتلاعب بتفسير المهلة القانونية المنصوص عليها في قانون الجمعيات الأهلية رقم 149 لسنة 2019 ولائحته التنفيذية، والتي تحدد ستين يومًا للبت في طلبات الترخيص بالتعاون مع الجهات الأجنبية. بدلاً من احتساب المهلة من تاريخ تقديم الطلب للإدارة المختصة – كما تنص الروح الطبيعية للقانون – تعتمد الوزارة تفسيرًا إداريًا توسعيًا يحسب “60 يوم عمل” تبدأ من وصول الملف إلى ديوان الوزارة بعد مروره على الإدارة والمديرية، مع وقف العدّ كلما طلبت استفسارًا شكليًا، ثم إعادة المهلة من الصفر، بما يحوّل بندًا تنظيميًا إلى أداة لتعطيل مشروعات بأكملها إلى أجل غير مسمّى.

 

هذا التحايل يتناقض مع النص الصريح للمادة 32 من اللائحة التنفيذية التي تشترط إصدار الترخيص خلال ستين يومًا من تاريخ تقديم الطلب، ما يعني أن الوزارة تمارس عمليًا “فيتو صامتًا” على أي مشروع لا يروق للأجهزة الأمنية، دون أن تتحمل مسؤولية إصدار قرار مكتوب بالمنع يمكن الطعن عليه أمام القضاء.

 

تهديد مباشر للنساء الفقيرات والمجتمع المدني

 

رفض هذه المشروعات لا يهدد فقط رواتب العاملين في المؤسسة كما تقول سهام علي، بل يحرم النساء اللواتي يعتمدن على خدمات الدعم القانوني والاجتماعي من شبكة أمان شبه وحيدة في مواجهة العنف الأسري والاقتصادي. في ظل انهيار الخدمات العامة وتسييس المجلس القومي للمرأة، تصبح مؤسسات مثل قضايا المرأة خط الدفاع الأخير للفئات الأضعف، ووأد مشروعاتها يعني عمليًا دفع آلاف النساء إلى الصمت أو العودة إلى علاقات عنيفة بلا سند.

 

الأكثر فجاجة أن هذه المشروعات تتطابق مع الأهداف المعلنة للاستراتيجية الوطنية لتمكين المرأة 2030، التي تنص صراحة على دور المجتمع المدني والجمعيات الأهلية في تنفيذ برامج الحماية والمساندة، بينما تتصرف وزارة التضامن كمن يرمي هذه الاستراتيجية في سلة المهملات بمجرد أن يتعلق الأمر بجمعيات مستقلة لا تسبّح بحمد السيسي. بهذا تتحول “رؤية 2030” إلى شعار على الورق، تُرفع في المؤتمرات الدولية لجلب الدعم والتمويل، بينما يُخنق على الأرض كل من يحاول ترجمتها إلى برامج حقيقية للنساء الفقيرات.

 

تضييق ممنهج على الحيز المدني وصمت رسمي فاضح

 

خطورة ما يجري أن استهداف مؤسسة قضايا المرأة يأتي بعد أيام فقط من دعوة منظمة العفو الدولية لتعديل قانون الجمعيات ورفع القيود الخانقة المفروضة على منظمات المجتمع المدني المستقلة، محذّرة من أن مستقبل الحيز المدني في مصر بات في خطر حقيقي، وهو ما تؤكده هذه الواقعة بصورة عملية. استمرار الوزارة في رفض المشروعات والتظلمات دون رد، مع تجاهل المتحدث الرسمي الرد على الأسئلة الصحفية حتى لحظة نشر التقارير الحقوقية، يُظهر أن الدولة اختارت طريق الصدام مع المجتمع المدني لا طريق الشراكة.

 

بهذا السلوك، تثبت حكومة الانقلاب أنها لا تتحمل حتى جمعية نسوية تعمل وفق القانون وتخاطب مؤسسات الدولة بخطابات رسمية؛ فكل ما لا يخضع لسيطرة الأجهزة الأمنية يُعامل كتهديد يجب تجفيف تمويله وخنقه بالإجراءات والبيروقراطية. ما يجري مع مؤسسة قضايا المرأة اليوم قد يتكرر غدًا مع كل جمعية تحاول أن تدافع عن الفقراء أو عن ضحايا العنف أو عن أبسط حقوق الإنسان، لتبقى الساحة خالصة لمؤسسات موالية ترفع شعارات “تمكين المرأة” بينما تُدار فعليًا من مكاتب الأمن الوطني.