في تاريخ الأمة الإسلامية برز علماء راسخون لم يكتفوا بتدريس الأحكام وتجريد المسائل، بل حملوا هموم الناس، وواجهوا الظلم، وذكّروا الحكّام بحقوق الرعية ومقتضيات الشرع، فصاروا قدوة في الجمع بين العلم والشجاعة والزهد.

 

في هذا التقرير، يستعرض الشيخ أحمد عبادي الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء في المغرب في كتابه الإسلام وهموم الناس، هذه النماذج والتي منها  الإمام الأوزاعي فقيه الشام، والإمام مالك إمام دار الهجرة، والإمام أحمد بن حنبل حامل لواء السنة في فتنة خلق القرآن، وشيخ الإسلام ابن تيمية الذي واجه التتار وحرك الجماهير والولاة للجهاد.

 

تجتمع سير هؤلاء على قاعدة واحدة: أن العالم الحق لا ينفصل عن قضايا أمته، ولا يبيع دينه في بلاط السلطان، بل يصدع بالحق قدر استطاعته، مستحضرا موقفه بين يدي الله قبل أن يحسب حساب غضب الملوك.

 

الأوزاعي: فقيه الشام ولسان المستضعفين

 

الإمام عبد الرحمن الأوزاعي إمام أهل الشام وعالمها الأبرز، عُرف بسعة علمه وقوة حجته وجرأته في مواجهة الجبابرة، حتى جعله المؤرخون من أعظم أئمة القرن الثاني الهجري.

 

وقف الأوزاعي في وجه عبد الله بن علي العباسي، الذي دخل الشام على بحر من دماء بني أمية، فسأله عن حكم ما سفكه من دمائهم، فسأله سؤال من يريد شرعنة المذبحة، لكن الأوزاعي ردّ بكلمة صريحة بأن دماءهم حرام، واستدل بحديث النبي عن حرمة دم المسلم، معرضا نفسه للقتل وهو يرى السيوف مسلولة حوله.

 

لم يكتف الأوزاعي بنصيحة السر، بل واجه السلطان مواجهة مباشرة، حتى انتفخت أوداج الأمير غضبا، ومع ذلك لم يتراجع الإمام عن الحق، واختار أن ينجو بدينه ولو هلك بدنه، فنجّاه الله من القتل وأبقى كلمته نبراسا للعالمين.

 

ثم كتب رسالته المشهورة إلى أبي جعفر المنصور يستحثه على فداء أسرى المسلمين عند الروم، فذكّره بأن هؤلاء المستضعفين لا ذمة لهم ولا خراج، ولا يجوز ترك النساء والذراري في أيدي العدو يُنتهك منهن ما لا يُستحل إلا بنكاح، وختم كتابه بتذكيره بالوقوف بين يدي الله عند نصب الموازين القسط يوم القيامة.

 

هذا النموذج يجعل من الفقيه حارسا للدماء والأعراض، يستند إلى نصوص الوحي في مساءلة السلطان، لا في تبرير بطشه ولا تغليف جرائمه بلغة التأويل والهوى، وهو معنى عميق من معاني الأمانة العلمية والشرعية.

 

مالك بن أنس: فقيه المدينة وميزان العدل الاجتماعي

 

الإمام مالك لم يكن فقيه نصوص فحسب، بل كان ضمير المدينة المنورة في وجه الخلفاء، يذكّرهم بمسؤوليتهم الاجتماعية تجاه الجياع والمنكسرين، مستحضرا سيرة عمر بن الخطاب كمعيار للحكم الرشيد.

 

حين لقي هارون الرشيد، لم يبالغ في المدح، بل واجهه بكلمة موجزة صادمة: إن عمر في عام الرمادة كان ينفخ النار تحت القدور بيده حتى يعلو الدخان لحيته، والناس اليوم يرضون منكم بأقل من هذا بكثير، في إشارة إلى الفارق الهائل بين من يرى نفسه خادما للأمة ومن يرى الملك امتيازا شخصيا.

 

يرسم مالك هنا صورة الحاكم القدوة الذي ينزل بنفسه إلى الميدان، لا يكتفي بالخطابات ولا بتفويض اللجان، بل يتقدم الصفوف في رعاية الفقراء، وهذا المعيار يجعل فقه السياسة الشرعية متصلا بلقمة الجائع واليتيم قبل أن يكون جدلا نظريا.

 

ومن خلال هذا الموقف تظهر مكانة العالم الذي لا يسكت عن التفاوت الفاحش بين قصور الحكام ومعاناة الرعية، بل يضع سيرة الخلفاء الراشدين أمام عيونهم حتى لا يتحول الحكم إلى ترف منفصل عن آلام الناس.

 

أحمد بن حنبل: ثبات العقيدة وحمل هم الأمة

 

دخلت الأمة في محنة خلق القرآن تحت ضغط المعتزلة وسلطان بني العباس، فخضع كثير من العلماء أو سكتوا تقية، بينما اختار الإمام أحمد أن يحمل لواء العقيدة نيابة عن عامة المسلمين، وهو يدرك أن ثباته أو تراجعه سيصنع مسار أمة بأكملها.

 

في السجن كان دعاؤه يعكس سعة صدره للأمة، فكان يسأل الله أن يرد كلّ من ظن أنه على الحق وهو على الباطل إلى الصراط المستقيم، كي لا يضل أحد من هذه الأمة، في صورة نادرة لعالم يجمع بين الصلابة العقدية والرحمة بالخصوم.

 

وحين سيق للجلد، جعل يردد الأذكار والآيات، ويشهد بأن القرآن كلام الله غير مخلوق مع كل سوط، حتى قال جلاده إن الضربات التي تلقاها الإمام لو صُبّت على فيل لهدته، ومع ذلك لم تزلزل يقينه، فكتب الله بثباته نهاية تلك الفتنة.

 

زهد أحمد في الدنيا كان السند الخفي لشجاعته العلنية؛ كان يكتفي بكسَر الخبز اليابس والملح، ولا يمد عينه إلى موائد السلاطين، ولذلك قال أحد الأمراء: هذا لن يجيب مطالبنا ما دام هذا القليل يكفيه، في إشارة إلى أن الاستغناء عن عطايا الحكام أصل في التحرر من هيمنتهم.

 

ابن تيمية: العالم المجاهد وقائد الرأي العام

 

جاء عصر ابن تيمية في ظل اجتياح التتار وذعر الناس وهروبهم إلى الأمصار البعيدة، فوقف خطيبا ومرشدا، يثبت القلوب، ويذكّر بأن الجهاد لرد العدوان فريضة، وأن إنفاق المال في الدفاع عن المسلمين أولى من تبديده في الهرب والنجاة الفردية.

 

خرج إلى أمراء الشام يشد من عزائمهم، ثم رحل إلى مصر يحرض السلطان على نصرة الشام، وقال له إن نصرة أهل الشام واجبة عليكم ولو لم تكونوا حكامهم، فكيف وأنتم المسؤولون عن ديارهم وأعراضهم وأموالهم.

 

بهذا الموقف تحوّل ابن تيمية إلى بوصلة للرأي العام، التف حوله الناس لأنهم وجدوا فيه عالما حاضرا في الميدان، يواسي الضعفاء، ويواجه السلطان بالحجة، حتى صار سجنه نهاية مطاف حياة مليئة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد بالقلم واللسان والسنان.

 

ويكشف هذا النموذج كيف يمكن للعالم أن يكون قوة تعبئة اجتماعية وسياسية، يدفع الأمة إلى المقاومة بدل الاستسلام، وإلى الثبات على مبادئها بدل الانسحاق أمام الواقع المفروض بقوة السلاح.

 

العلم رسالة ومسؤولية

 

تلتقي هذه النماذج الأربعة على أن العالم وارث للنبوة، لا يقف دوره عند حدود الفتوى الفردية، بل يمتد لحمل هم الجماعة ورفض الظلم وفضح تزييف الدين لخدمة السلطان.

 

فالأوزاعي حمى الدماء والأعراض، ومالك ذكّر بالمسؤولية الاجتماعية للحاكم، وأحمد ثبّت عقيدة الأمة في أحلك الفتن، وابن تيمية جسّد وحدة العلم والجهاد في مواجهة الغزو والترويع.

 

وعلى خطاهم تُستعاد صورة العالم الأمين الذي يرى نفسه خادما لدين الله وعباده، لا موظفا لدى السلطة ولا مبررا لجرائمها، فيوازن بين النص والواقع، ويجعل ميزان الآخرة فوق حسابات الدنيا.

 

وهكذا يتحول تاريخ السلف إلى زاد تربوي للأجيال، يعلّمها أن قول الحق مع الاستقامة والزهد هو الطريق لنهضة الأمة وصيانة عقيدتها وكرامة شعوبها في كل زمان ومكان.