أثار مقتل الطالب مصطفى عيد النجار، ابن العشرين عاماً، في مركز دار السلام بمحافظة سوهاج، حالة واسعة من الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي، بعدما أعلنت وزارة الداخلية أن مقتله وقع خلال مداهمة أمنية تخلّلها تبادل لإطلاق النار مع «عناصر إجرامية شديدة الخطورة». في المقابل، تقول شهادات أهالي المنطقة وزملاء الطالب إن ما حدث لا يشبه ما ورد في البيان الرسمي، وإن مصطفى لم يكن مطلوباً أمنياً ولا معروفاً بانخراطه في أي نشاط قد يضعه في دائرة الاستهداف. وبين رواية الدولة ورواية الشارع يتصاعد سؤال أكبر: هل يشير الحادث إلى خلل فردي، أم إلى نمط متكرر في الممارسات الأمنية؟
رواية الداخلية: اشتباك مع عناصر مسلحة
وفق البيان الرسمي الصادر عن وزارة الداخلية، فقد تلقت الأجهزة الأمنية معلومات عن وجود «عناصر إجرامية» تتخذ أحد المواقع في مركز دار السلام مأوى لها. وبعد التحرك إلى مكان المعلومة، وفق ما جاء في البيان، بادرت تلك العناصر بإطلاق النار على القوات، ما استدعى الرد بالمثل، وأسفر الاشتباك عن مقتل ثلاثة أشخاص، من بينهم مصطفى النجار.
البيان اكتفى بتوصيف الضحايا بأنهم «عناصر شديدة الخطورة»، دون تقديم تفاصيل إضافية حول هوية كل منهم أو خلفياتهم الجنائية. كما لم يتضمن معلومات عن طبيعة التحركات الأمنية أو إن كانت هناك أوامر ضبط وإحضار صادرة بحق المتوفين.
الروايات الشعبية: لا اشتباك ولا سلاح
على الجانب الآخر، بدت شهادات المقيمين في المنطقة مختلفة تماماً. إذ تحدث عدد من أهالي دار السلام، عبر منصات اجتماعية وصفحات محلية، عن مداهمة مفاجئة نفذتها قوة أمنية لمبنى سكني دون وقوع أي مقاومة مسلحة من داخله. واتفق معظم هؤلاء الشهود، بحسب ما تناقلته صفحات محلية وصحفيون ميدانيون، على أن إطلاق النار كان من جهة الأمن فقط، وأن مصطفى لم يكن سوى أحد قاطني المكان، أو كان يجري زيارة عابرة.
طلاب من كلية الطب بجامعة سوهاج، حيث يدرس مصطفى، أكدوا في منشوراتهم أن زميلهم معروف بالهدوء والاجتهاد، وأنه لم يُظهر يوماً أي ميول سياسية أو مشكلة قد تستدعي ملاحقته. شهادات زملائه حملت قدراً كبيراً من الحسرة؛ فمصطفى، كما وصفوه، كان شاباً طموحاً يحلم بمستقبل مهني ناجح في الطب، وانتهت حياته بعد ساعات فقط من احتفاله بعيد ميلاده العشرين.
لغة ثابتة في البيانات الأمنية
يرى حقوقيون أن لغة البيانات الأمنية في مصر تتبنى في كثير من الأحيان قوالب ثابتة، مثل وصف القتلى بـ«العناصر الإجرامية شديدة الخطورة» أو الحديث عن «تبادل كثيف لإطلاق النار». وبالنظر إلى عدد من الحوادث السابقة التي قُتل فيها أشخاص أثناء مداهمات أمنية، يسجل مراقبون أن هذه العبارات أصبحت مألوفة للغاية، ما يجعل الجمهور أقل ثقة في كونها تعكس كل ما يحدث على أرض الواقع.
في حادثة مصطفى النجار، كان الاعتراض الشعبي أكبر من المعتاد لأن الضحية طالب جامعي معروف لسكان منطقته، لا يحمل سوابق جنائية، بحسب أسرته وزملائه، ولا تنطبق عليه الأوصاف التي وردت في البيان الأمني. ومن هنا بدأ كثيرون يطرحون سؤالاً: كيف تحوّل شاب جامعي في يوم وليلة إلى «عنصر خطير»؟
إحساس عام بالفقد وعدم الأمان
انتشرت التعليقات الغاضبة على مواقع التواصل، ليس فقط حداداً على مصطفى، ولكن خوفاً من أن تتحول الأخطاء الأمنية – إن ثبتت – إلى نمط يهدد المدنيين العاديين. أحاديث زملائه في الكلية عكست هذا الشعور: «مصطفى كان من أهدأ الطلبة… لم نعرف عنه أي شيء غير التفوق والاجتهاد»، كتب أحدهم. واعتبر آخرون أن الحادثة تُشعرهم بأن أي شخص قد يجد نفسه في موقع خطر لمجرد التواجد في المكان الخطأ وفي الوقت الخطأ.
حوادث مشابهة: نمط أم مصادفة؟
منظمات حقوقية مصرية ودولية وثّقت خلال السنوات الأخيرة عدداً من حالات القتل أثناء المداهمات، وسط تباين كبير بين الروايات الرسمية وروايات الأهالي. ففي بعض هذه الحالات، قالت وزارة الداخلية إن القتلى «إرهابيون»، بينما أكدت عائلاتهم أن أبناءهم ليسوا متورطين في أي نشاط مسلح أو سياسي.
هذه الوقائع جعلت تقارير حقوقية تتحدث عن ما تسميه «القتل خارج نطاق القضاء»، وتشير إلى غياب التحقيقات المستقلة في معظم الحالات. ورغم أن السلطات المصرية تنفي بشكل قاطع أي عمليات تصفية خارج إطار القانون، يظل غياب المعلومات التفصيلية وغياب نتائج التحقيقات الرسمية عاملاً يزيد من مساحة الشك.
الإفلات من العقاب والرقابة المحدودة
يشير ناشطون وباحثون إلى أن المشكلة الأكبر لا تتعلق بحادث فردي، بل بغياب الشفافية في التحقيقات. فالنيابة العامة لا تنشر عادة تقارير واضحة حول مثل هذه الحالات، كما أن الإعلام الرسمي لا يتيح مساحة لعرض روايات الأسر أو لمناقشة الاتهامات الموجهة للسلطات. هذا الفراغ المعلوماتي يترك المواطنين أمام رواية رسمية مقتضبة وروايات شعبية كثيرة، ما يزيد انعدام الثقة.
ويحذر حقوقيون من أن استمرار مثل هذه الظروف يدفع نحو تكريس حالة «الإفلات من العقاب»، حيث لا تتم محاسبة أي أفراد أمن على استخدام القوة المفرطة إلا في حالات نادرة. وهذا الوضع – كما يقولون – قد يؤدي إلى تكرار الأخطاء أو التجاوزات لأن القائمين على العمليات الميدانية يدركون أن البيانات الرسمية غالباً ما تكون كافية لاحتواء ردود الفعل.
الأثر النفسي والاجتماعي
رحيل مصطفى بهذه الطريقة يخلف أثراً عميقاً ليس فقط على أسرته، بل على مجتمعه الجامعي وبيئته المحلية. فمقتل شاب غير منخرط في السياسة ولا في أنشطة مشبوهة – وفق ما يقوله المقربون – يعطي انطباعاً بأن كل المواطنين عرضة للاشتباه. يزداد الشعور بعدم الأمان حين يموت شخص في عمر العشرين بعد يوم واحد من احتفال عادي بعيد ميلاده.
الخطر الأكبر، كما يرى باحثون اجتماعيون، هو شعور الأجيال الشابة بأن القانون لا يحميها، وأن حياتها قد تتأثر بقرارات ميدانية سريعة لا يمكن الطعن فيها لاحقاً.
أسئلة مؤجلة.. ومطالبات بالتحقيق
يطالب حقوقيون بضرورة فتح تحقيق قضائي مستقل وشفاف في الحادث، للكشف عما جرى فعلاً: هل كان هناك اشتباك؟ هل تم ضبط أسلحة؟ هل كان مصطفى موجوداً في الموقع المستهدف صدفة أم باعتباره مطلوباً؟
هذه الأسئلة – التي لم يُقدَّم لها جواب رسمي حتى الآن – تظل جوهر القضية، ليس فقط من أجل مصطفى، بل من أجل بناء ثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة.
واخيرا فان حادثة مقتل الطالب مصطفى النجار ليست مجرد مأساة شخصية، بل قضية تحمل أبعاداً أمنية وقانونية واجتماعية أوسع. فغياب رواية تفصيلية من السلطات، وتناقضها مع روايات الأهالي، والإرث الطويل من الحوادث المشابهة، كلها عوامل تجعل الحادثة مرآة لوضع أكبر يتعلق باستخدام القوة، وغياب الرقابة، وتراجع الثقة بين الدولة والمواطن.
وفي انتظار كشف الحقائق، تبقى قصة مصطفى علامة مؤلمة على الفجوة المتسعة بين رواية الدولة وما يرويه الشارع، وعلى ضرورة أن تكون سيادة القانون هي الحكم في كل ما يتعلق بحق الحياة.

