بقلم: د. عمر عبيد حسنة


لقد مضى على العاملين للإسلام في العصر الحديث زمن غير قصير وهم يتبنون الخطاب التعليمي للناس، وهو خطاب تجريدي يركز على تحديث الناس بأسس الإسلام العقيدية والتصورية والتشريعية، وحلاله وحرامه، ومحاسنه، ووعوده في الدنيا والآخرة إن التزموا به.

ومع ضرورة هذا الخطاب، فإن الاقتصار عليه يُغفل الطبيعة العملية لهذا الدين، فالإسلام دين يبدأ عمليا مع الإنسان، ومن النقطة التي يجده فيها، في إكسابه كل حقوقه التي أوجبها له الله، ومطالبته بكل واجباته التي فرضها عليه، وبحسب الإمكان: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (الحج:78).
 

طبيعة الإسلام العملية والتكافل الاجتماعي
الإنسان يترتب عليه منذ اللحظة التي يلتزم فيها بتعاليم الدين الإسلامي أن يتكافل مع المسلمين الآخرين، وأن يتعاون معهم، وأن يتبنى همومهم ومشاكلهم، وأن يسعى معهم إلى حلها قدر استطاعته.

هذا التعاون والتكافل والتبني المتبادل للهموم والمشاكل هو الذي يفضي بالمؤمنين إلى حالة الجسد الواحد المتماسك القوي، كما عبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).

وقد جعل الله من التكذيب بالدين عدم تبني هموم ومشاكل الآخرين ومساعدتهم ولو بالكلمة الطيبة، وتوعد بالويل من يمنع الماعون عمن يحتاجون إليه: (أرأيت الذي يكذب بالدين * فذلك الذي يدع اليتيم * ولا يحض على طعام المسكين * فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يراءون * ويمنعون الماعون) (الماعون:1-7).
 

الإسلام منهج حياة متكامل
طبيعة الإسلام هذه هي التي جعلته يتقدم الأديان الأخرى ويتبوأ المقام الأحمد، لأنه ليس مجرد مجموعة اعتقادات وقناعات، وإنما هو عقيدة وعمل ومنهج حياة متكامل، جاء ليحل مكان مناهج الحياة السائدة، ففعل ذلك.
ولكن بعد محاولات عزله من واقع الحياة إلى واقع الأذهان، عادت البشرية لتقف من جديد على حافة الردى.

إن من سنة الله ألا تعالج المشكلات الواقعة إلا بحقائق تقع، تقابلها وتغيرها.
 

ضرورة الانتقال إلى الخطاب العملي الواقعي
إذا أراد العاملون للإسلام اليوم إنقاذ البشرية بالإسلام، فعليهم أن ينطلقوا من إدراك عميق لطبيعة هذا الدين العملية، وذلك مقتضاه عدم الاقتصار على الخطاب التعليمي، بل قرنه بالعطاء العملي الواقعي الذي يحض هذا الدين عليه أتباعه.
ويتمثل هذا البعد والتحرك به بحيث يصبح خطاب العاملين من أجل الإسلام للناس خطابا عمليا، بالإضافة إلى كونه تعليميا، في كونه ينطلق أيضا من التبني لهمومهم وآلامهم وآمالهم بالإسلام.

والخطاب الذي ينبعث من هذه الأرضية هو الخطاب المستند بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن سار على نهجه بإحسان.
 

التحذير من الالتحام المغرض
المقصود بهذا الالتحام بالناس وتبني همومهم وآلامهم وآمالهم ليس خطب ودهم من أجل الارتقاء إلى سدة الحكم على أكتافهم، ومن ثم التنكر لقضاياهم، لأن هذه سبيل الوصوليين.
وإنما المقصود هو التقرب من الله بنفع عياله، وهذا هو الذي يميز العامل بالإسلام عن غيره، لأنه لا ينتظر جزاء ولا شكورا من الناس، فمقصوده هو رب الناس.
ومن ثم فهو لا يتبع ما يقدمه من خير منا ولا أذى، وإن لم يشكر من لدن الناس.
 

التحذير من التجريديين غير الفعّالين
المقصود بهذا الالتحام ليس تسخير الناس من أجل تثبيت نظام معين مع عدم المبالاة بهؤلاء الناس، حيوا أم ماتوا، ربحوا أم خسروا.
هذه سبيل التجريديين غير ذوي الفعالية في الواقع، الذين يعتبرون ما في أذهانهم ذا أولوية على واقع الأمور، وإن كان ما في الأذهان مجانبا للصواب، وكان مجرد قناعات أفرزتها عقول محددة إثر دراسات وعمليات تفكير فيها نقص وترة.
 

الالتحام الحقيقي: تعليم الناس أن خلاصهم في الإسلام
المقصود بالالتحام بالناس هو تعليمهم أن خلاصهم في الإسلام، وبالإسلام، بشكل عملي، من خلال تقديم الحلول لمشاكلهم كلها انطلاقا من الإسلام.
مع التركيز من قبل ومن بعد على أن أكبر مشكلة يمكن أن يمنى بها الإنسان هي الخسران الأكبر يوم العرض على الله.
ولا يمكن أن يتم ذلك إلا باعتماد عملية تربوية شاملة رابطة بالله تعالى.
 

الأسس البرهانية على صحة الإسلام
هذه السبيل تتضمن أسسا برهانية على صحة الإسلام وهيمنته على الدين كله، مع قوم عندهم بقايا بذور إيمانية تحتاج لأن تسقى وترعى.
وهذا بعد القضية العقيدي.
 

البعد الإصلاحي التدافي
لا بد من الإشارة إلى أهمية البعد الإصلاحي التدافي الذي يمنع من إفساد الأرض: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين) (البقرة:251).
التاريخ الإنساني في حقيقته لا يعدو أن يكون مجموعة من التصرفات البشرية التي تتم ضمن إطار المشيئة الإلهية بالإرادة الإنسانية.
وهناك المحيط الابتلائي المتمثل في الأرض وما عليها من زينة وما يقع فيها من أقدار الله، بسطا للرزق أم تقديرا له، وتذليلا للأنواء أم تصريفا لها على أوجه العسر امتحانا وابتلاء: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) (الأنبياء:35).
 

نمط مواجهة البشر للمظاهر الابتلائية
هذا المحيط الابتلائي وإن كان له تأثير على التاريخ، إلا أن الذي له تأثير أكبر هو نمط مواجهة البشر لهذه المظاهر وتصرفهم تجاهها.

الأمم التي لها حضور ويسري في كيانها نسغ الحياة هي الأمم التي تغالب لصنع تاريخها عوض أن يصنع لها، وتسعى عوض الاستسلام والاستخذاء والتطامن أمام إرادات الآخرين أن توجه مسار الحياة والأحياء خضوعا وامتثالا لأمر الله ومعانقة لشرعته ومنهاجه: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) (آل عمران:104)، (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) (البقرة:143).