في الوقت الذي تكافح فيه ملايين الأسر المصرية لتأمين قوت يومها في ظل موجة غلاء فاحش وتآكل غير مسبوق للقدرة الشرائية، تحتفل حكومة الانقلاب وأجهزتها التصديرية بتحقيق أرقام قياسية في صادرات الصناعات الغذائية. يكشف تقرير صادر عن المجلس التصديري للصناعات الغذائية المصرية عن مفارقة مؤلمة: فبينما يعاني السوق المحلي من شح في بعض السلع وارتفاع جنوني في أسعارها، سجلت صادرات مصر الغذائية ارتفاعاً بنسبة 9.4% خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2025، لتصل قيمتها إلى 5.1 مليار دولار، مقارنة بـ 4.7 مليار دولار في الفترة نفسها من العام الماضي. هذه الأرقام، التي تقدمها الحكومة كدليل على النجاح الاقتصادي، تمثل في حقيقة الأمر وجهاً آخر لمعاناة المواطنين، حيث يتم تفضيل جلب العملة الصعبة على حساب توفير الغذاء بأسعار معقولة للشعب.

 

تفاصيل "النجاح" التصديري على حساب السوق المحلي

 

يقدم تقرير المجلس التصديري صورة تفصيلية لما يصفه بـ "الديناميكية الواضحة" في أداء الصادرات الشهرية. بدأت السنة بقوة في يناير 2025 بصادرات بلغت 529 مليون دولار، بزيادة 10% عن يناير 2024 الذي سجل 479 مليون دولار. ورغم تراجع طفيف في فبراير ومارس بنسبة 2% لكل منهما، حيث سجل فبراير 532 مليون دولار ومارس 577 مليون دولار، إلا أن الربع الثاني من العام شهد قفزة هائلة. في أبريل وحده، ارتفعت الصادرات بنسبة 18% لتصل إلى 630 مليون دولار، بزيادة قدرها 96 مليون دولار عن أبريل 2024. واستمر هذا المنحى التصاعدي في مايو بصادرات قيمتها 632 مليون دولار ونمو بنسبة 15%، بينما شهد يونيو نمواً بنسبة 6% بقيمة 506 ملايين دولار.

 

لم يتوقف هذا الأداء عند هذا الحد، بل واصل الربع الثالث من عام 2025 نفس المسار. في يوليو، بلغت الصادرات 623 مليون دولار بنمو 10% وزيادة 59 مليون دولار عن العام السابق. وشهد أغسطس الأداء الأقوى بارتفاع نسبته 17% لتصل الصادرات إلى 585 مليون دولار مقارنة بـ 500 مليون دولار في أغسطس 2024. واختتم شهر سبتمبر الفترة بصادرات قيمتها 527 مليون دولار، بزيادة 14% عن العام الماضي. هذه الأرقام لا تعكس فقط حجم الأموال التي دخلت خزينة الدولة أو جيوب المصدرين، بل تعبر أيضاً عن حجم المنتجات الغذائية التي خرجت من الأسواق المصرية وحُرم منها المواطن الذي يواجه صعوبة في شرائها. إن كل زيادة بنسبة 1% في الصادرات هي مؤشر على تضاؤل المعروض في السوق المحلي، مما يساهم بشكل مباشر في رفع الأسعار.


لمن يذهب الغذاء المصري؟

 

يُظهر التوزيع الجغرافي للصادرات أن الأولوية ليست للمواطن المصري. فقد استحوذت الدول العربية على النصيب الأكبر من صادرات مصر الغذائية بقيمة 2.49 مليار دولار، وهو ما يمثل 48% من إجمالي الصادرات، بنمو قدره 2%. وجاء الاتحاد الأوروبي في المرتبة الثانية باستيراده ما قيمته 1.05 مليار دولار، أي 20% من الإجمالي، وبنسبة نمو لافتة بلغت 9% وزيادة قدرها 88 مليون دولار. كما سجلت الصادرات إلى الولايات المتحدة الأمريكية أداءً استثنائياً بنمو هائل بلغ 38%، لتصل قيمتها إلى 340 مليون دولار، بزيادة 93 مليون دولار عن نفس الفترة من العام الماضي. وبلغت صادرات الأسواق الأفريقية غير العربية 386 مليون دولار، ممثلة 8% من الإجمالي، بينما حققت الصادرات إلى باقي دول العالم نمواً ضخماً بنسبة 33% بقيمة 847 مليون دولار.

 

هذه الأرقام تؤكد أن المنتجات الغذائية المصرية عالية الجودة، التي يتم إنتاجها على الأراضي المصرية وبمواردها، أصبحت متاحة وموجهة بشكل أساسي للمستهلكين في الدول العربية وأوروبا وأمريكا، بينما يجد المواطن المصري نفسه أمام منتجات أقل جودة وبأسعار تفوق قدرته الشرائية. إن سياسة "التصدير أولاً" تتجاهل حقيقة أن الأمن الغذائي لا يعني فقط القدرة على إنتاج الغذاء، بل يعني في المقام الأول ضمان وصول هذا الغذاء إلى جميع أفراد الشعب بأسعار مناسبة.


سياسات تعمق الفجوة بين الدولة والمواطن

 

إن الاحتفاء بزيادة الصادرات الغذائية في ظل أزمة غلاء طاحنة هو دليل قاطع على انفصال صانعي السياسات عن واقع الشارع المصري. فبينما تتباهى الحكومة بقدرتها على جلب 5.1 مليار دولار من تصدير الطعام، تتسع دائرة الفقر وتتعمق معاناة الملايين الذين باتوا عاجزين عن توفير أبسط متطلبات الحياة. إن الأرقام المعلنة، رغم بريقها، تخفي وراءها حقيقة مرة: سياسات اقتصادية تضع العملة الصعبة فوق الإنسان، وتفضل إطعام الأسواق الخارجية على حساب إشباع بطون المصريين. ما لم تتم مراجعة هذه السياسات بشكل جذري لتحقيق توازن حقيقي بين متطلبات التصدير وحق المواطن في غذاء آمن وبأسعار معقولة، ستظل هذه "النجاحات" مجرد أرقام صماء تزيد من اتساع الفجوة بين دولة تزداد ثراءً على الورق، وشعب يزداد فقراً في الواقع.