منذ ساعات وعلى طريق قنا–سفاجا بصعيد مصر، فقدت ست عائلات أحباءها في حادث مروّع، لقي فيه 6 أشخاص مصرعهم، من بينهم راعي كنيسة بالغردقة وزوجته، وأصيب أكثر من 12 آخرين.
حادث جديد يُضاف إلى سجل طويل من الكوارث على ما بات يُعرف في صعيد مصر بـ"طرق الموت"، حيث تتكرر الحوادث وتتزايد أعداد الضحايا، في ظل غياب شبه تام للرقابة، وانعدام إجراءات الأمان، وتجاهل حكومي مزمن للمأساة.
 

حادث مأساوي جديد... والسبب ذاته: الإهمال
بحسب التحريات الأولية، فإن الحادث الذي وقع نتيجة السرعة الزائدة واختلال عجلة القيادة، أدى إلى تصادم عنيف بين سيارة أجرة وأخرى خاصة، أسفر عن تهشم السيارتين بالكامل ومصرع الضحايا على الفور. من بين الضحايا الزوجان إيليا نعيم، راعي كنيسة بالغردقة، وزوجته أنس صليب، فيما نُقلت ابنتهما المصابة شنودين إيليا، و12 آخرين، إلى مستشفى قنا العام لتلقي العلاج.

لكن السؤال الأكبر هنا ليس فقط عن السائق أو عن السرعة، بل عن البيئة التي تسمح لمثل هذه الكوارث أن تتكرر بهذا الشكل المفجع، وعن بنية تحتية مهترئة تحوّل كل رحلة على الطرق السريعة إلى مغامرة محفوفة بالموت.
 

أرواح تزهق على طرق بلا أمان
طريق قنا–سفاجا، كغيره من عشرات الطرق في الصعيد، يُعد نموذجًا صارخًا لإهمال الدولة في ملف تطوير وتأمين البنية التحتية. فلا إشارات تحذيرية كافية، ولا فواصل خرسانية، ولا إنارة مناسبة في معظم المسارات، ولا حتى وجود دوري لدوريات المرور لرصد السرعة أو ضبط السائقين المتهورين.

إن تحميل السائق وحده مسؤولية ما حدث هو تبسيط مخلّ، يُخفي خلفه منظومة كاملة من الفشل الإداري والفساد والإهمال المزمن في صيانة الطرق، وتجاهل الدولة لحق المواطن في التنقل بأمان.
 

“طرق الموت”... تسمية أهالي الصعيد لواقع مرير
لم تأتِ تسمية "طرق الموت" من فراغ. فأهالي الصعيد، الذين يضطرون يوميًا لاستخدام هذه الطرق لأغراض العمل والدراسة والعلاج، باتوا يدركون أن كل رحلة قد تكون الأخيرة. فالحوادث على هذه الطرق باتت شبه يومية، ولا تمرّ أيام دون تسجيل ضحايا جدد. لكن الحكومة، بدلًا من إعلان حالة طوارئ لتأمين هذه المسارات الحيوية، تكتفي بالبيانات الرسمية العقيمة، والتحقيقات التي غالبًا ما تُغلق دون نتائج أو محاسبة.
 

أين خُطط التطوير التي أعلنتها الدولة؟
لطالما تحدثت الحكومة عن خطط تطوير شبكة الطرق في البلاد، وأطلقت مبادرات بمليارات الجنيهات تحت مسمى "الجمهورية الجديدة"، لكن الواقع على الأرض، خصوصًا في الصعيد، يكشف أن تلك الخطط إما لم تصل إلى هذه المناطق المهمشة، أو أنها توقفت عند حدود التصريحات الإعلامية.

النتيجة هي أن المواطن البسيط في الصعيد ما زال يُساق إلى الموت على طرق محفوفة بالمخاطر، دون حواجز حماية، دون إسعاف سريع، ودون حتى عدالة بعد الحادث. هل حياة أهل الصعيد أقل قيمة؟ أم أن الحكومة لا ترى فيهم أولوية في خططها التنموية؟
 

غياب العدالة والمحاسبة
من الملاحظ أنه، رغم تكرار مثل هذه الحوادث، نادرًا ما نشهد محاسبة حقيقية للمسؤولين عن سوء حالة الطرق. النيابة تباشر التحقيقات، والضحايا يُدفنون، ثم يُطوى الملف بانتظار حادث جديد. لا محاسبة لوزارة النقل، ولا مساءلة لقيادات الطرق والكباري، ولا تحقيق برلماني حقيقي في عدد القتلى المتزايد على الطرق المصرية.

إذا كانت حياة المواطن لا تُقدّر، فعلى الأقل كان من الممكن أن تُحمى بالقانون، بالبنية التحتية السليمة، وبالرقابة الصارمة، لكن شيئًا من ذلك لا يحدث.
 

متى تُصبح حياة المواطن أولوية؟
حادث طريق قنا–سفاجا ليس الأول، ولن يكون الأخير ما لم تتغير سياسات الحكومة تجاه صعيد مصر. إن دماء الضحايا يجب أن تكون جرس إنذار مدوٍ للدولة، لمراجعة عاجلة لواقع الطرق، وتوفير الحد الأدنى من الأمان والرقابة، وتوجيه ميزانيات الدولة إلى حيث تُزهق الأرواح بالفعل.

إن الاستمرار في التغافل عن هذه الكوارث هو مشاركة غير مباشرة في صناعة الموت. والمواطن المصري يستحق، على أقل تقدير، طريقًا آمنًا لا يتحول إلى نعش متحرك.