في حفل كبير نظمته الدولة تحت عنوان "وطن السلام"، عاد إلى الأضواء كل من الفنان محمد سلام والفنانة آمال ماهر بعد غياب طويل، ما أثار كثيرًا من التساؤلات، ليس فقط على المستوى الفني، بل على مستوى التوظيف السياسي والرسائل الإقليمية الضمنية التي حملها هذا الظهور، لا سيما في ظل توترات مكتومة بين القاهرة والرياض.
اللافت أن عودة الفنانين لم تكن مصادفة أو مدفوعة بجمهور أو حركة فنية طبيعية، بل جاءت منصة رسمية وبموافقة أمنية، في احتفالية وطنية برعاية الدولة.
ولأن كواليس السياسة في مصر لا تنفصل عن الفضاء العام، فإن هذا المشهد يُقرأ باعتباره إشارة محسوبة من السلطة، قد لا تخلو من ما يمكن وصفه بـ"كيد ناعم" موجه إلى أطراف خليجية، خصوصًا المملكة العربية السعودية.
محمد سلام.. الفنان الممنوع يعود بتوقيع رسمي
الفنان محمد سلام، المعروف بأعماله الوطنية والإنسانية، اختفى عن المشهد الفني لأكثر من عامين، رغم شعبيته واحترامه الكبير بين الجمهور والنخب الثقافية. لم يكن غيابه لأسباب فنية، بل لاعتبارات تتعلق – بحسب مقربين – بمواقفه السياسية، وتحديدًا دعمه المتكرر للقضية الفلسطينية، ومشاركته في تعبيرات علنية ضد الحرب على غزة.
لم يصدر قرار بمنعه، لكن التجميد كان واضحًا. في سياق النظام المصري، الذي يضبط المشهد الفني بقرارات أمنية غير معلنة، يُقرأ ذلك الغياب كـ"توقيف غير رسمي". واليوم، تعود الدولة نفسها لتقدم محمد سلام على مسرحها، في مناسبة وطنية وبشكل احتفالي، ما يُثير التساؤل: لماذا تغييب الفنان ثم استدعاؤه بهذا التوقيت؟
آمال ماهر.. من الظل إلى الضوء
الحالة نفسها تنطبق على الفنانة آمال ماهر، التي تراجعت عن الساحة الفنية بعد طلاقها من المستشار السعودي تركي آل الشيخ، وما تردد حينها عن تعرضها لضغوط شخصية وصحية ونفسية. آنذاك، التزمت الجهات الرسمية المصرية صمتًا كاملاً تجاه ما كان يبدو في نظر كثيرين "قضية كرامة وطنية" لفنانة مصرية تواجه ضغوطًا من مسؤول خارجي.
لكن هذه الفنانة تعود اليوم، بنفس الطريقة: في حفل ترعاه الدولة. صوتها حاضر، صورتها تتصدر العناوين، ورسالتها واضحة. وإذا جُمعت عودتها مع محمد سلام في احتفالية واحدة، فالمشهد يبدو وكأنه إعادة ترتيب أوراق في لعبة أكبر من الفن.
الرسالة السياسية: استقلال رمزي عن النفوذ الخليجي؟
قد يكون أبرز ما يحمله هذا المشهد من دلالة، هو رسالة غير مباشرة للرياض، مفادها أن القاهرة – أو بالأحرى السلطة المصرية – لا تزال تملك القدرة على رسم ملامح المشهد العام، بما فيه المشهد الفني، دون الحاجة إلى "مباركة" خليجية، أو مراعاة لحساسيات محسوبة.
الرمزيات كثيرة. محمد سلام معروف بمواقفه الرافضة للتطبيع والداعمة لغزة، في وقت تتجنب فيه بعض العواصم الخليجية هذا الملف. وآمال ماهر كانت في قلب صراع صامت مع شخصية سعودية نافذة، قبل أن تتوارى قسرًا. والآن، يعود الاثنان معًا، وبرعاية رئاسية، في حفل عنوانه "وطن السلام".
وكأن النظام يوجه رسالة: "نُقرّر من يُغني، ومتى، وكيف. لا أحد يُملي علينا أسماءً ولا يسحبها."
لكن أين المبادئ؟
غير أن هذا المشهد، رغم الرسائل السياسية التي قد تبدو "حازمة" في ظاهرها، يكشف أيضًا عن إشكالية أعمق في طريقة إدارة الشأن العام والفني في مصر. فهل من المقبول أن يُغيّب فنان صاحب موقف إنساني لمجرّد أن توقيت مواقفه لا يوافق سياسة الدولة؟ وهل من المنطقي أن يُعاد إلى الساحة فقط حين يتطابق ظهوره مع مصلحة سياسية؟
المشكلة هنا ليست في عودة محمد سلام أو آمال ماهر، بل في أن عودتهما تمت بقرار سياسي، لا فني. ومن هنا، يصبح السؤال أكثر إلحاحًا: هل الفن في مصر مرهون باللحظة السياسية؟ وهل يستمر التعامل مع الفنانين كأدوات رمزية تُستخدم وتُركن حسب الحاجة؟
مواقف سلام من غزة: مكلف فنيًا.. ومفيد الآن؟
من المعروف أن محمد سلام كان من الأصوات النادرة التي دعمت غزة علنًا في وجه العدوان الإسرائيلي الأخير. وقد دفع ثمن ذلك غاليًا من خلال تجميد نشاطه الفني.
واليوم، ومع ضغوط متصاعدة على الحكومة المصرية بسبب موقفها من معبر رفح وتباطؤ الدعم الإنساني لغزة، تعود السلطة لاستدعاء فنان ارتبط اسمه بالتضامن الحقيقي، ربما لتحسين صورتها الإنسانية أمام الجمهور المحلي والعربي.
سياسة الرموز لا تصنع فنًا حُرًا
عودة آمال ماهر ومحمد سلام قد تبدو للبعض انتصارًا شخصيًا مستحقًا، لكنها في الواقع تعكس مشكلة هيكلية في علاقة السلطة بالفن في مصر.
فطالما ظلّ ظهور الفنانين أو اختفاؤهم مرتبطًا بحسابات سياسية أو إقليمية، فإن الفضاء الفني سيظل محدودًا، خاضعًا، بلا حرية حقيقية.
في النهاية، "كيد النسا" السياسي قد يبعث برسائل للخارج، لكنه يترك الداخل متسائلًا: متى يصبح الفن في مصر حُرًا فعلاً، لا جزءًا من أدوات الرسائل السياسية؟

