بعد مرور عامين على اندلاع الحرب المدمرة في غزة، ومع توقف مؤقت لإطلاق النار يخيم عليه التوتر، يبدو أن مستقبل القطاع المحاصر معلق بخيوط رفيعة من الإرادات الدولية والمصالح الإقليمية المتضاربة.
ففي الوقت الذي يتنفس فيه سكان غزة الصعداء بحذر، يرى خبراء أن "الكلمة الأخيرة" في تحديد مسار الأحداث لم تُنطق بعد، وأنها لا تزال حكرًا على واشنطن وتل أبيب.
هذا التحليل يقدمه الدكتور مختار غباشي، الأمين العام لمركز الفارابي للدراسات السياسية، الذي يرسم صورة قاتمة لمستقبل تحكمه "دولة تأمن العقاب فتسيء الأدب"، على حد وصفه، في إشارة إلى إسرائيل.
الكلمة الأخيرة بيد أميركا وإسرائيل دولة تأمن العقاب وتسيء الأدب.. خبير سياسي يتوقع السيناريوهات بغزة#قناة_الغد #فلسطين #غزة pic.twitter.com/2SZK2EmOqx
— قناة الغد (@AlGhadTV) October 18, 2025
جوهر الأزمة: هيمنة أمريكية وسلوك إسرائيلي فوق القانون
في تحليل حصري، يضع الدكتور مختار غباشي يده على جوهر الأزمة التي تمنع التوصل إلى حل دائم في غزة.
يرى غباشي أن المشهد السياسي الحالي يمكن اختصاره في معادلة بسيطة ومعقدة في آن واحد: "الكلمة السحرية لإنهاء الأزمة تقع حصريًا في يد الولايات المتحدة، بينما تواصل إسرائيل تجاوزاتها لشعورها بأنها آمنة تمامًا من أي محاسبة دولية".
ويشرح الأمين العام لمركز الفارابي أن المجتمع الدولي، بما في ذلك الأطراف التي رعت اتفاق شرم الشيخ، يفتقر إلى "القدرة الحقيقية على ممارسة ضغط فعال" على الحكومة الإسرائيلية.
ويضيف: "الطرف الوحيد القادر على لجم إسرائيل وإلزامها بأي اتفاق هو الإدارة الأمريكية بقيادة ترامب. بدون ضغط أمريكي مباشر وحاسم، ستبقى كل الجهود الدولية مجرد حبر على ورق".
وتزداد الشكوك عمقًا عند النظر إلى دور المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف، الذي يصفه غباشي بأنه "أكثر صهيونية من كثير من أعضاء الحكومة الإسرائيلية".
ويتهمه غباشي بإفشال اتفاق سابق تم التوصل إليه في يناير 2025، وبتبنيه الكامل للرواية الإسرائيلية، مما يجعله وسيطًا منحازًا يعمق الأزمة بدلًا من حلها.
هذا الانحياز، حسب غباشي، يؤكد أن واشنطن ليست مجرد وسيط، بل هي لاعب أساسي يمسك بزمام المبادرة.
أما عن الطرف الآخر في المعادلة، فيلخص غباشي السلوك الإسرائيلي في عبارة بليغة: "إسرائيل دولة تأمن العقاب، فتسيء الأدب".
ويوضح أن هذا الشعور بالإفلات من المحاسبة هو الذي يغذي "التجاوزات اليومية" في غزة، ويسمح لإسرائيل باستخدام قضايا إنسانية، مثل جثامين المحتجزين، كورقة ضغط سياسي وعسكري، رغم الدمار الهائل الذي سببته آلتها الحربية والذي يجعل العثور على تلك الجثث مهمة شبه مستحيلة.
ملفات شائكة ترسم ملامح الصراع القادم
بعيدًا عن السيناريوهات التقليدية التي تتحدث عن سلام شامل أو حرب مفتوحة، يرى الدكتور غباشي أن المستقبل القريب لغزة سيتشكل عبر سلسلة من "الملفات الشائكة" التي ستكون ساحة الصراع القادمة بين إسرائيل والفلسطينيين، مع تحكم أمريكي في الخلفية. هذه الملفات، التي ستحدد طبيعة الحياة اليومية لسكان القطاع، هي:
- المساعدات الإنسانية كأداة ضغط: يتوقع غباشي أن تستمر إسرائيل في التحكم الصارم بتدفق المساعدات الإنسانية إلى القطاع، واستخدامها كورقة مساومة دائمة لفرض شروطها السياسية والأمنية على السكان والفصائل الفلسطينية.
- إعادة الإعمار.. المهمة المستحيلة: يصف غباشي ملف إعادة الإعمار بأنه "وهم" في ظل الظروف الحالية. ويشير إلى أن رفض إسرائيل السماح بدخول المعدات الثقيلة والمواد الأساسية بحجة "الاستخدام المزدوج" سيجعل من أي جهد دولي لإعادة بناء ما دمرته الحرب أمرًا مستحيلًا، مما يبقي غزة رهينة الدمار.
- نزع سلاح حماس.. مطلب "مهين ومستحيل": يعتبر غباشي أن الحديث عن "نزع سلاح حماس" هو مطلب غير واقعي و"مهين"، ولا يمكن أن تقبل به الحركة التي لا تزال تحتفظ بقاعدة شعبية وقدرات عسكرية. ويتوقع أن يكون هذا الملف نقطة الخلاف الأكثر حدة، والتي قد تفجر الأوضاع مجددًا في أي لحظة.
- من يحكم غزة؟ سؤال بلا إجابة: يثير غباشي التساؤل الأهم حول مستقبل إدارة القطاع. فبينما يقترح الرئيس ترامب تشكيل "مجلس سلام" استشاري، تبقى السلطة الفعلية على الأرض غامضة. هل ستعود السلطة الفلسطينية؟ أم ستبقى حماس مسيطرة أمنيًا؟ أم ستنشأ إدارة تكنوقراط بدعم دولي؟ كل هذه الخيارات تواجه عقبات سياسية وميدانية هائلة.
مستقبل مرهون بتغيير قواعد اللعبة
في ختام تحليله، يؤكد الدكتور مختار غباشي أن الطريق للخروج من دوامة العنف في غزة يتطلب تغييرًا جذريًا في قواعد اللعبة.
هذا التغيير، من وجهة نظره، لن يأتي إلا من خلال مسارين متوازيين: ضغط أمريكي حقيقي ومستمر على إسرائيل يتجاوز التصريحات الدبلوماسية، وتفعيل "آلية عقابية" من قبل المجتمع الدولي تنهي حالة "الإفلات من العقاب" التي تتمتع بها إسرائيل منذ عقود.
بدون هذين الشرطين، سيبقى مستقبل غزة مرتهنًا بالقرارات التي تتخذ في واشنطن وتل أبيب، وسيظل سكان القطاع يعيشون تحت رحمة صراع معقد، حيث لا تلوح في الأفق أي بوادر لحل عادل ومستدام، بل مجرد إدارة لأزمة تتجدد باستمرار.