لم تكن "قمة شرم الشيخ للسلام" في أكتوبر 2025 سوى محطة جديدة في مسار إدارة الأزمة الفلسطينية، لا في طريق حلّها. فعلى الرغم من الاسم البراق واللغة المتفائلة التي صاحبتها، فإن ما جرى في القاعة لم يكن صعودًا نحو "قمة السلام" كما أراد منظّموها أن يصوّروا، بل هبوطًا إلى "قاع السلام"، حيث تُدار الكوارث بدل أن تُحلّ، وتُجمَّد المآسي بدل أن تُعالج جذورها.

لقد كانت القمة، من حيث الشكل، لحظة سياسية لافتة؛ أكثر من عشرين دولة حضرت لتوقيع وثيقة تُنهي الحرب في غزة وتضمن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والرهائن، وسط تغطية إعلامية ضخمة وتصريحات رنانة عن “حقن الدماء” و“فرصة السلام التاريخية”. غير أن مضمون القمة كان أبعد ما يكون عن التاريخية أو التحول الجوهري. فبينما توقف النزيف مؤقتًا، ظلّ المرض الذي ولّد الحروب المتكررة بلا علاج.

 

قاع السلام: إدارة الأزمة لا حل الصراع

القمة تعاملت مع نتائج الحرب، لا مع أسبابها. فالمداولات انحصرت في ثلاثة ملفات أساسية: وقف إطلاق النار، إعادة إعمار غزة، وتأمين المساعدات الإنسانية. هذه الخطوات، على أهميتها الإنسانية، لا تصنع سلامًا بل تُبقي الوضع في حالة "هدوء قابل للانفجار".

لقد شبّه أحد المحللين القمة بعملية إسعاف عاجلة لمريض ينزف، من دون التفكير في علاج علّته المزمنة. فوقف الحرب لا يعني نهاية الاحتلال، وإعادة الإعمار لا تعني استعادة الكرامة الوطنية، والمساعدات الإنسانية لا تُغني عن الحقوق السياسية. إنها حلول تُسكّن الألم لكنها لا تعالج الجرح.

هذه المقاربة هي ما جعلت كثيرين يصفون قمة شرم الشيخ بأنها قمة “إدارة الأزمة”، لا قمة “صناعة السلام”. فالعالم، بقيادة واشنطن، ما زال يفضّل إبقاء الصراع في مستوى “قابل للسيطرة”، بدل الدخول في مواجهة سياسية حقيقية مع إسرائيل تفرض عليها التزامات واضحة تجاه حلّ الدولتين.

 

السلام الغائب: حين يغيب الأفق السياسي

السلام الحقيقي لا يُبنى بالبيانات المشتركة، بل بالرؤية السياسية والإرادة القادرة على فرضها. وهذا ما غاب عن قمة شرم الشيخ. فقد طغى الطابع الأمني على كل ما عدا ذلك، إذ جاءت “خطة ترامب” التي شكّلت الإطار العام للنقاش قائمة على ترتيبات ميدانية لضمان أمن إسرائيل وإدارة شؤون غزة بعد الحرب، لا على مبادئ العدالة أو تقرير المصير.

وما زاد المشهد ابتذالًا أن إسرائيل غابت عن القمة رسميًا، في رسالة صريحة بأنها ليست معنية بأي التزامات سياسية، وأن كل ما يجري هو مجرد ترتيبات "بين الآخرين". هذا الغياب كان بحد ذاته تجسيدًا لفشل المنظومة الدولية في ممارسة الضغط المطلوب على تل أبيب، وتأكيدًا أن القمة لم تملك الجرأة الكافية لفتح الملفات الجوهرية: الدولة الفلسطينية، القدس، واللاجئون.

أما الولايات المتحدة، فقد تحركت بدافع مصلحي بحت. فكما أشار الكاتب عماد الدين حسين، لم يكن تحرك واشنطن نابعًا من إيمان بعدالة القضية الفلسطينية، بل من خشية أن تمتد ألسنة النار إلى مناطق نفوذها في الشرق الأوسط وتهدد مصالحها الحيوية. السلام بالنسبة لواشنطن ليس هدفًا، بل وسيلة لضبط الإقليم ومنع الانفجار الكبير.

 

الطريق إلى القمة: الدولة الفلسطينية

على الرغم من كل هذا، خرجت القمة بتأكيد مشترك لما يعرفه الجميع: أن السلام الحقيقي في الشرق الأوسط لن يتحقق إلا بقيام دولة فلسطينية مستقلة، على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.

لكن هذا التأكيد بدا أشبه بفقرة بروتوكولية تُتلى في كل مناسبة، لا التزامًا عمليًا له جدول زمني أو أدوات تنفيذ. فإرادة الفعل غائبة، والضغوط الدولية ضعيفة، بينما إسرائيل ماضية في سياسة فرض الأمر الواقع.

إن الطريق من "قاع السلام" إلى "قمته" يبدأ فقط عندما تتحول هذه الكلمات إلى فعل سياسي حقيقي، حين تتوقف القوى الكبرى عن إدارة الصراع وتبدأ في إنهائه، وحين تصبح إقامة الدولة الفلسطينية هدفًا واقعيًا لا شعارًا مؤجلًا.

واخيرا لقد أطفأت قمة شرم الشيخ نار الحرب، لكنها تركت الجمر مشتعلًا تحت الرماد. كانت نجاحًا إنسانيًا مؤقتًا، لكنها فشل سياسي دائم. طالما ظل الاحتلال قائمًا، والحقوق مغيبة، فإن أي اتفاق جديد لن يكون سوى هدنة بين حربين، وحلقة إضافية في مسلسل إدارة الأزمة.

إننا اليوم لسنا على قمة السلام، بل في قاعه — قاعٌ باردٌ تتعايش فيه الدماء مع التصريحات، والاحتلال مع الكلام عن "الأمل". أما القمة الحقيقية، فلا تُبلغ إلا حين تقوم الدولة الفلسطينية، ويُعاد للسلام معناه.