بعد مرور عامين على اندلاع حرب السابع من أكتوبر 2023، تبدو الصورة التي ترسمها الأرقام والإحصاءات أكثر قتامة مما توقعه أكثر المراقبين تشاؤمًا. فبينما يتحدث الخطاب السياسي عن "سلام قادم" و"فرص إعادة إعمار"، تكشف الحقائق الميدانية عن واقع من الدمار الشامل والمعاناة غير المتكافئة، حيث دفعت فلسطين، وتحديدًا قطاع غزة، الثمن الأكبر في حربٍ تُعدّ الأشد فتكًا في تاريخ الصراع العربي–الإسرائيلي الحديث.
الكارثة الإنسانية في غزة: أرقام ترقى إلى مستوى الإبادة
تؤكد البيانات الصادرة عن وزارة الصحة في غزة وتقارير الأمم المتحدة أن الحرب تحولت إلى إبادة جماعية موثّقة بالأرقام. فقد استشهد أكثر من 67,000 فلسطيني خلال العامين الماضيين، في حصيلة غير مسبوقة تُصنّفها المنظمات الحقوقية كـ"أكبر كارثة إنسانية في القرن الحادي والعشرين".
الغالبية الساحقة من الضحايا مدنيون لا علاقة لهم بالقتال: أكثر من 18,000 طفل و12,400 امرأة قضوا نحبهم تحت القصف، فيما أصيب 169,000 شخص بجروح متفاوتة، كثير منهم يعانون إعاقات دائمة. أما المفقودون، فقد تجاوز عددهم 10,000 شخص لا يزالون تحت أنقاض البيوت المدمرة.
وإلى جانب ضحايا القصف، تتحدث تقارير طبية عن مئات الوفيات بسبب الجوع والأمراض، نتيجة انهيار النظام الصحي ونفاد الإمدادات الطبية والغذائية. وقد أُجبرت المستشفيات الميدانية على العمل دون كهرباء أو مياه، فيما تحوّلت مناطق النزوح إلى بؤر للأوبئة وسوء التغذية، خاصة بين الأطفال.
لم يقتصر التدمير على البشر، بل شمل البنية التحتية بالكامل. فقد تم تسوية أحياء كاملة بالأرض، وتعطّل أكثر من 60% من الأنشطة الاقتصادية، ليتحول القطاع إلى ما يسميه الخبراء "اقتصادًا تحت الركام". كما تضررت نسبة تفوق 80% من المدارس والمستشفيات، وأصبح أكثر من مليوني إنسان بلا مأوى دائم.
الخسائر الإسرائيلية: صدمة عسكرية ومجتمعية
على الجانب الآخر، تكبّدت إسرائيل خسائر عسكرية ومدنية هي الأكبر في تاريخها الحديث، لكنها تبقى محدودة مقارنة بحجم الكارثة في غزة. فمنذ السابع من أكتوبر 2023، قُتل نحو 1,152 جنديًا وضابطًا من قوات الجيش والأمن الإسرائيلي، فيما بلغ عدد القتلى المدنيين 1,200 شخص، معظمهم في الساعات الأولى من الهجوم المفاجئ.
كما أصيب قرابة 30,000 إسرائيلي بجروح، بينهم 6,300 عسكري، في حين تم أسر 251 شخصًا لا يزال مصير العشرات منهم مجهولًا. ووفق بيانات وزارة الدفاع الإسرائيلية، انضمت 5,900 عائلة جديدة إلى قوائم الثكالى، وتم تسجيل 20,000 جندي في برامج إعادة التأهيل النفسي والجسدي، في دلالة على عمق الأزمة المجتمعية التي خلّفتها الحرب.
لكن رغم فداحة هذه الأرقام بالنسبة للمجتمع الإسرائيلي، فإنها لا تقارن بالخسائر الفلسطينية الهائلة. فمقابل كل إسرائيلي قُتل، استشهد نحو 55 فلسطينيًا، وهو ما يعكس طبيعة الصراع غير المتكافئ الذي استخدمت فيه إسرائيل قوة نارية مفرطة ضد مناطق مكتظة بالمدنيين.
مقارنة تكشف الفارق الأخلاقي والسياسي
تُظهر المقارنة بين الجانبين أن إسرائيل واجهت خسائر عسكرية محدودة زمنياً ومكانياً، بينما تحوّلت غزة إلى ركام دائم ومقبرة مفتوحة. فالهجمات الإسرائيلية لم تقتصر على أهداف عسكرية، بل شملت منازل ومدارس ومساجد ومستشفيات، وهو ما صنفته تقارير الأمم المتحدة بأنه “استخدام ممنهج للعقاب الجماعي”.
أما من الناحية الاقتصادية، فقد تجاوزت الخسائر الفلسطينية المادية 35 مليار دولار، في حين لم تتجاوز خسائر إسرائيل المباشرة بضعة مليارات، عوّضتها الحكومة بدعم أمريكي وأوروبي عاجل. هذا التفاوت في حجم الدمار والضحايا جعل العديد من المراقبين يصفون ما حدث بأنه "حرب إبادة بغطاء قانوني".
حرب بلا نهاية وحل غائب
بعد عامين من الدم والدمار، لا يزال السلام بعيد المنال. فالحرب التي بدأت بهجوم مباغت انتهت إلى كارثة إنسانية متواصلة، وسط غياب تام لحل سياسي عادل يضع حدًا لمعاناة الفلسطينيين. وبينما تحاول إسرائيل ترميم جبهتها الداخلية، تقف غزة على حافة الفناء الإنساني والاقتصادي، في ظل صمت دولي وانتقادات خجولة للعدوان.
في النهاية، تبقى الأرقام الشاهد الأكثر صدقًا على مأساة لا يمكن تجميلها: أكثر من ستين ألف شهيد، عشرات الآلاف من الجرحى والمفقودين، ومدن تُعاد إلى العصر الحجري. إنها حرب خلّفت تحت أنقاضها جرحًا مفتوحًا في ضمير الإنسانية، ودليلًا إضافيًا على أن استمرار الاحتلال وغياب العدالة لن يورثا سوى المزيد من الموت والدمار.