في خطوة أثارت استياءً واسعًا في الأوساط العربية والإسلامية، قام الوسيطان الأمريكيان في مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، جاريد كوشنر وستيف ويتكوف، بزيارة حائط البراق في القدس المحتلة، حيث أدّيا طقوسًا يهودية علنية أمام عدسات الإعلام، في مشهد رأى فيه كثيرون تجسيدًا سافرًا للانحياز الأمريكي لإسرائيل، وتناقضًا صارخًا مع دور الوسيط الذي يفترض به الحياد.
الزيارة، التي جاءت عشية بدء تنفيذ المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار الذي أعلن عنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لم تُقرأ فقط بوصفها حدثًا دينيًا أو رمزيًا، بل كإشارة سياسية موجّهة في لحظة دقيقة من مسار الصراع، حيث يتطلع الفلسطينيون والعالم العربي إلى دور وساطة متوازن بعد حربٍ أرهقت المدنيين ودمرت غزة.
طقوس “من أجل السلام”.. أم مشهد استفزازي؟
أظهرت الصور ومقاطع الفيديو المنتشرة كوشنر وويتكوف، وهما يرتديان الكيباه (غطاء الرأس اليهودي)، ويؤديان طقوسًا تلمودية عند الحائط الذي يطلق عليه اليهود "حائط المبكى"، بينما يصفه المسلمون بـ"حائط البراق" لارتباطه بمعجزة الإسراء والمعراج. وأكد ويتكوف في تصريحات صحفية أنه يصلي "من أجل أن يُحقق الفصل الجديد في الشرق الأوسط كامل إمكاناته لتحقيق السلام"، فيما قال كوشنر إنه يصلي "لأجل الرئيس ترامب ورؤيته للسلام".
لكن هذه المشاهد، التي رافقتها صور لإيفانكا ترامب وهي تقوم بالطقوس ذاتها، فُسرت في العالم الإسلامي على أنها إهانة سياسية ودينية، خصوصًا أن الحائط جزء من السور الغربي للمسجد الأقصى، الذي يشكل رمزًا مقدسًا للمسلمين وموقعًا حساسًا في كل تسوية سياسية حول القدس.
الزيارة بين الرمزية والانحياز السياسي
تاريخيًا، مثّلت زيارة المسؤولين الأمريكيين لحائط البراق ورقة انتخابية في الداخل الأمريكي، هدفها كسب دعم اللوبي الصهيوني ورضا الناخبين اليهود. غير أن ما يثير الجدل هذه المرة هو أن الزائرين ليسوا مرشحين سياسيين، بل وسطاء رسميون مكلفون بملف التهدئة، وهو ما يفرغ دور الوساطة من معناه ويحوّلها إلى أداة سياسية في يد تل أبيب وواشنطن.
فالولايات المتحدة التي تصرّ على قيادة عملية "السلام"، تفشل مرة بعد أخرى في إقناع الفلسطينيين والعرب بموضوعيتها. فالموقف الأمريكي من القدس، والدعم العسكري اللامحدود لإسرائيل، ثمّ المشهد الأخير في زيارة حائط البراق، كلها دلائل على أن واشنطن تعمل كطرف شريك في الصراع وليس كوسيط لإنهائه.
وساطة على مقاس الحليف الإسرائيلي
تأتي زيارة كوشنر وويتكوف في وقت كثّفت فيه واشنطن جهودها الدبلوماسية بعد التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، بمشاركة مصرية وقطرية وتركية. وقد أعلن ترامب أن الاتفاق يشمل إطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين وإعادة إعمار غزة "تدريجيًا"، دون أي ذكر لحقوق الفلسطينيين السياسية أو لمصير الحصار المفروض على القطاع منذ أكثر من 18 عامًا.
وفي خضم هذا المشهد، يُنظر إلى تحركات الوسطاء الأمريكيين باعتبارها محاولة لطمأنة إسرائيل بأن أي "سلام" قادم سيكون على مقاسها، وأن واشنطن لن تسمح بفرض شروط فلسطينية أو عربية مستقلة في إدارة المرحلة المقبلة.
انتقادات عربية وإسلامية واسعة
أثارت الخطوة موجة غضب في الشارع العربي والإسلامي، حيث اعتُبرت استفزازًا لمشاعر المسلمين في ظل ما يعانيه الفلسطينيون من حصار ودمار. واعتبر مراقبون أن ما جرى يؤجج الاحتقان الديني والسياسي، ويُضعف فرص نجاح أي مفاوضات مستقبلية، لأن الوسطاء أنفسهم يتصرفون كأطراف في النزاع لا كقوى محايدة.
كما رأى محللون أن هذه الزيارة تمثل رسالة ضمنية بأن القدس خارج أي تفاوض، وأن الإدارة الأمريكية الحالية تواصل النهج ذاته الذي بدأه ترامب حين نقل السفارة الأمريكية إلى المدينة المقدسة عام 2018.
وساطة بلا ثقة
بينما يروّج البيت الأبيض للاتفاق الأخير على أنه "بداية عهد جديد للسلام"، تبدو الثقة العربية والإسلامية في الوساطة الأمريكية في أدنى مستوياتها. فزيارة حائط البراق، التي يفترض أن تكون خطوة شخصية رمزية، تحولت إلى دليل إضافي على انعدام الحياد الأمريكي، ورسالة مستفزة تثير مشاعر الغضب وتعيد إلى الأذهان أن "السلام الأمريكي" ما زال مشروعًا أحاديًا منحازًا لا يرى الفلسطينيين إلا من نافذة تل أبيب.