رغم تصريحات حكومة الانقلاب بنفي وجود أي أزمة في الأسمدة وتأكيدها أن المزارعين يحصلون على حصصهم المقررة دون مشاكل، إلا أن الواقع الزراعي في القرى والمراكز المصرية يرسم صورة مغايرة تمامًا. فقد كشفت النقابة العامة للفلاحين وصغار المزارعين عن استمرار أزمة صرف الأسمدة المدعمة في مختلف المحافظات، مؤكدة أن أكثر من ثلث الفلاحين لم يحصلوا على حصصهم خلال الموسم الصيفي، واضطر الكثيرون لشراء الأسمدة من السوق السوداء بأسعار مضاعفة.
تصريحات رسمية مثيرة للجدل
وزير الزراعة في حكومة الانقلاب علاء الدين فاروق حاول نفي الأزمة، مدعيًا أن الدولة ملتزمة بتوفير حصتها البالغة 2.4 مليون طن من الأسمدة، لكنه اعترف ضمنيًا بوجود خلل في السوق، مشيرًا إلى ارتفاع أسعار "الأسمدة الحرة" إلى نحو 26 ألف جنيه للطن بسبب ما وصفه بـ"الأسعار العالمية".
غير أن هذا التبرير لم يقنع النقابات الزراعية ولا المزارعين، الذين يرون أن المشكلة الحقيقية تكمن في سوء إدارة منظومة الدعم وتوزيع الحصص، وليس في تقلب الأسعار الدولية كما تزعم الحكومة.
قرارات حكومية عمّقت الأزمة
تعود جذور الأزمة الحالية إلى قرارات اتخذتها حكومة الانقلاب خلال الأشهر الماضية، من بينها رفع أسعار الأسمدة المدعمة بنسبة 33%، ليقفز سعر الطن من 4500 إلى نحو 6000 جنيه، وذلك بقرار من اللجنة الوزارية لصناعة الأسمدة التي تضم وزراء البترول والصناعة والزراعة والمالية وقطاع الأعمال.
وبررت الحكومة القرار بأنه محاولة لتعويض الشركات المنتجة عن زيادة تكلفة الغاز الطبيعي المستخدم في التصنيع، بعد رفع سعره من 4.5 إلى 5.5 دولار لكل مليون وحدة حرارية وربطه بسعر اليوريا العالمي بمعادلة سعرية مرنة.
لكن الأخطر من ذلك، أن الحكومة قررت خفض حصة وزارة الزراعة من الأسمدة المدعمة من 55% إلى 37% من إجمالي الإنتاج الشهري، وهو ما أدى إلى تقليص الكميات المتاحة للمزارعين، وبالتالي حرمان أكثر من ثلثهم من الحصول على الدعم.
فجوة في الصرف وحرمان مزارعين
أكد عبد الفتاح عبد العزيز، رئيس النقابة العامة للفلاحين وصغار المزارعين، أن أزمة الأسمدة "ما زالت تمثل تحديًا حقيقيًا"، رغم تمديد وزارة الزراعة فترة الصرف حتى 10 أكتوبر الجاري. وأوضح أن بيانات الوزارة نفسها تشير إلى أن نسبة الصرف لم تتجاوز 80%، أي أن هناك عجزًا يتراوح بين 20 و30% من الحصة المقررة لم تصل إلى الجمعيات الزراعية أو المستحقين.
وكشف عبد العزيز عن تلقي النقابة شكاوى ومستندات رسمية من جمعيات زراعية أكدت إغلاق ميزانياتها المالية قبل انتهاء المهلة المحددة، مما تسبب في حرمان عدد كبير من الفلاحين من حصصهم. وطالب بإضافة النسبة الناقصة من حصة الموسم الصيفي إلى الموسم الشتوي المقبل لضمان استقرار إنتاج محصول القمح الاستراتيجي الذي يعد عماد الأمن الغذائي الوطني.
دعوات لتسهيل الصرف والرقابة الميدانية
من جانبه، حذر حسين عبد الرحمن أبو صدام، نقيب الفلاحين، من أن أي خلل في منظومة الأسمدة يضرب الإنتاج الزراعي في الصميم، مؤكّدًا أن وصول الأسمدة في الوقت المناسب وبالكمية الكافية هو عامل حاسم في رفع إنتاجية الفدان.
وطالب بتسهيل الإجراءات البيروقراطية التي تعرقل صرف الحصص، وتكثيف الرقابة الميدانية لمنع التلاعب في منظومة التوزيع وضمان وصول الدعم إلى مستحقيه الحقيقيين.
وأشار أبو صدام إلى أن الحل الجذري للأزمة لا يكمن في زيادة الإنتاج فقط، بل في تطوير منظومة رقمية متكاملة لتتبع الأسمدة منذ خروجها من المصانع وحتى وصولها إلى المزارعين، معتبرًا أن الرقمنة يمكن أن تحد من السوق السوداء التي تتسبب في رفع الأسعار وإرباك السوق المحلي.
البعد الاستراتيجي للأزمة
بدوره، أوضح الدكتور طارق محمود، أستاذ بمركز البحوث الزراعية، أن الأسمدة تمثل العمود الفقري للإنتاج الزراعي في مصر، وأي اضطراب في توفيرها أو توزيعها يضر مباشرة بصغار المزارعين الذين يشكلون الشريحة الأكبر من المنتجين.
وطالب محمود بتطبيق نظام رقابي صارم يضمن العدالة في التوزيع ويحقق الاستقرار للقطاع الزراعي. كما شدد على أن صناعة الأسمدة صناعة استراتيجية ترتبط بالأمن القومي الاقتصادي، ودعا إلى زيادة الاستثمارات المحلية في إنتاج الأسمدة لتغطية الاحتياجات الداخلية وتوفير فائض للتصدير، ما يساهم في دعم احتياطي الدولة من العملة الصعبة.
وأشار إلى أن دمج التكنولوجيا الحديثة في الرقابة والتوزيع يمكن أن يضع حدًا للتلاعب والتسرب في الدعم، مؤكدًا أن أزمة الأسمدة الحالية تمثل إنذارًا واضحًا بفشل منظومة الإدارة الزراعية في مصر، وضرورة إصلاحها قبل أن تتفاقم الأزمة مع دخول الموسم الشتوي.
الخلاصة: أزمة الأسمدة في مصر ليست مجرد خلل مؤقت في التوريد، بل نتيجة مباشرة لسياسات اقتصادية فاشلة وقرارات حكومية أنهكت الفلاحين، وألقت بظلالها على الأمن الغذائي الوطني. ومع استمرار التجاهل الرسمي، يبدو أن الفلاح المصري سيظل يدفع وحده ثمن أخطاء لا يرتكبها.