في هذا الشهر ( يونيو ) اجتمعت ذكرى وفاة ثلاثة من عمالقة العمل الإسلامي والصحوة الإسلامية.. الداعية الأشهر فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي ( (15 أبريل 1911م - 17 يونيو 1998م ) ..والرئيس الشهيد محمد مرسي (8 أغسطس 1951 – 17 يونيو 2019) ، أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر الحديث...وزعيم ومؤسس حركة مجتمع السلم ( حمس ) في الجزائر الشيخ محفوظ نحناح( 12يناير -1942م – 20يونيه 2003 م ) صاحب التجربة الإسلامية الفريدة في المغرب العربي والتي حظيت باحترام الجميع .
وقد لقي هؤلاء جميعا ربهم وهم ثابتون على طريق الدعوة إلى الله والعمل الوطني والجهاد لنصرة الإسلام وثبيت دعائمه ، كل في مجاله وميدانه الذي أبدع فيه...دعوة وحكما وتعليما وتنويرا للشعوب ، وكفاحا ضد مخططات وحملات أعداء الاسلام التي لم تتوقف سعيا لهدم حصونه .
ففضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي الغني عن التعريف بجهوده الكبيرة في خدمة الإسلام وابداعاته في تفسير القرآن الكريم بطريقته الفريدة التي مازال مفعولها ساريا في قلوب من يتابعها في مشارق الأرض ومغاربها ، وبما استخرجه من أحكام وقضايا فقهية وفكرية .وقد أفحمت ردوده خلال تناوله للعديد من القضايا الشائكة خصوم الإسلام من الملحدين والعلمانيين والشيوعيين ،كما أثارت تعليقاته القوية علي بعض المفكرين والكتاب عواصف وهجمات العلمانيين ، ومنها - علي سبيل المثال - تعليقه علي ما جاء في مقال للأديب المعروف توفيق الحكيم بجريدة الأهرام ، تحت عنوان " حديث مع الله ".. يومها رفض الشيخ الشعراوي محتوى المقال وعنوانه ، ووصف ما قاله الحكيم ب" شيخوخة الفكروطفولة العقيدة " ، فهاج الإعلام المصري الذي يسيطر علي معظمه اليساريون والعلمانيون ضد الشيخ الشعراوي وجردوا عليه حملة استمرت لأسابيع وجهوا خلالها لفضيلته اتهامات هابطة وحادة وغير صحيحة .
في تلك الآونة كنت في بداية عملي الصحفي بجريدة ا"لنور" الإسلامية الصادرة عن حزب الأحرار المعارض و التي كان يرأس تحريرها الصديق المحترم الاستاذ مؤمن الهباء، وكانت هي الجريدة الوحيدة في مصر التي تتبني القضايا الإسلامية بعد إغلاق مجلتي الدعوة والاعتصام .
ولم تفكر صحيفة واحدة في مناقشة الشيخ الشعراوي فيما قال بحق الأستاذ توفيق الحكيم ولكن خيارهم الوحيد كان مهاجمة الشيخ .
وحدها صحيفة اللواء الإسلامي الأسبوعية الصادرة عن الحزب الوطني الحاكم برئاسة تحرير الكاتب الصحفي أحمد زين المقرب من الشيخ الشعراوي ، كانت المتنفس الضعيف لفضيلته لإعلان رأيه وموقفه .
ووسط هذه العاصفة الهوجاء التي أثارتها الصحافة المسماة بالقومية ضد الشيخ الشعراوي انتصارا لتوفيق الحكيم ، فكرت - من تلقاء نفسي - في الذهاب إلى الشيخ في مقر إقامته المطل علي جامع الحسين باالقاهرة ،والحصول منه علي ردوده علي ماورد ضده في تلك الحملة الإعلامية. وبالفعل ذهبت إلى الشيخ بعد سماح الأمن الموجود على باب شقته
( بصفته وزيرا سابقا )، وحصلت منه علي موعد لإجراء الحوار بعد سؤالي عن الموضوع والجريدة التي سأجري الحوار لحسابها .
وفي الموعد المحدد حملت مسجلي واصطحبت زميلي مصور الجريدة ، وذهبنا للشيخ ، وعند وصولي فوجئت بوجود مجموعة كيرة من أصدقائه وحوارييه ، وهم جميعا شخصيات لها وزنها لكنها- فيما بدا لي بعد ذلك - لا تعلم تقاليد الحوارات الصحفية ، وكنت أظن انهم سيخلون بيني وبين الشيخ حتي أتمكن من محاورته والاستماع إلى ردوده باطمئنان ، لكنهم استمروا في البقاء بأماكنهم ،وعندما شرع أحد الحضور في تسجيل الحوار لفت انتباهه للتوقف لأن الحوار خاص بي ولا يحق لاحد آخر امتلاكه ، عندها اشار الشيخ لي بإصرار علي ضرورة التسجيل : وقال لي صراحة : " عشان لو نشرتم شيئا مخالفا يكون التسجيل معنا "، ساعتها شعرت أن هناك توجسا مني ، وعندما بدأت في طرح أسئلتي بدا الشيح في إجاباته مشحونا من الصحافة والصحفيين ، وقد التمست له العذر بسبب قسوة الحملة الظالمة التي كانت دائرة ضده في الصحافة القومية والتي فاقت حدود اللياقة .
وعندما تطرقت في أسئلتي إلى تفاصيل اتهامات الحملة الدائرة ضده ، وكان هدفي الحصول منه علي ردود واضحة وقوية ونشرها للرأي العام الواقع تحت سطوة افتراءات تلك الحملة ،لكن الحضور من أحباب الشيخ أفسدوا على ما سعيت اليه بتدخلاتهم المتشنجة حتي ظن الشيخ أنني مرسل من هؤلاء العلمانيين لمشاركتههم في حملتهم ضده .. ومع توالي أسئلتي ارتفعت حرارة الشيخ وازدادت حدة تدخلات الحضور ضدي حتى شعرت أنهم سيهجمون علي ، فوضعت المسجل بين قدمي حفاظا علي استكمال الحوار وتسجيل كل ما يقال لأنه يمثل انفرادا صحفيا في ذلك الوقت ...وواصلت الحوار حتي نهايته ، وعندما هممت بالانصراف فوجئت بأن المصور فص ملح وداب .. لقد فر صديقي هاربا ، ولما قابلته في اليوم التالي لمراجعة الصور، سألته عن سبب انصرافه ، فرد مبتسما : لقد " نفدت بجلدي من علقة ساخنة "! وتساءل :كيف طاوعك قلبك علي الاستمرارحتى النهاية ؟!
وعندما هممت بجمع أوراقي للانصراف ، طلب مني بعض الحضور - وهم أساتذة كبار – بتحمل ماجري لأن الشيخ يمر بظروف صحية ، وأشار الشيخ بهز رأسه مؤمنا علي كلامه ، فكررت علي الشيخ – يرحمه الله – القول بأنني جئت لمحاورته حبا له ، ومن تلقاء نفسي ودون علم الجريدة التي طلبت الحوار لحسابها .. جئت بنية الدفاع عن فضيلتك ... لكنكم ظننتم بي سوءا وآذيتموني ، فكرر الشيخ – يرحمه الله - ومن معه تطييب خاطري.
ولما خرجت إلى الشارع أخذت أفكر وأنا في طريق العودة : هل أروي في مقدمة الحوار ما جرى ، فأزيد الطين بلة وأصب الزيت على نار الحملة على الشيخ ، فأكون بذلك مساهماٍ في تشويهه ..أم ماذا افعل؟ ....وبعد تفكير طويل قررت في اليوم التالي التركيز علي الوجه المشرق فيما جرى من حفاوة الاستقبال في البداية ، والتغاضي عن بقية المشهد .
وتم نشر الحوار بعنوان رئيسي في الصفحة الأولى :" االشيخ الشعراوي للنور "إذا مكنني الله من أذن الرئيس مبارك سأطالبه بتطبيق الشريعة الإسلامية".
ويبدو أن الشيخ عندما أطلع علي الحوار بعد النشر فوجئ بأنني لم أشرفيه بكلمة واحدة لما جرى معي ، بل بالعكس وجد إطراء وشكرا لكرم استقباله .
وفوجئنا بعد نشر الحوار بدعوة من الشيخ للجريدة بكامل فريقها علي الغداء ، وبعد الغداء قام بصحبتنا بزيارة لمقر الجريدة القريب من القصر الجمهوري بكوبري القبة ، حيث جري حوار موسع امتد لأكثر من ساعة بدا فيه الشيخ أكثر انفتاحا وتدفقا في المعلومات حول العديد من القضايا.
ذلك موقف مازال محفورا في ذاكرتي وكنت يومها في بدايات عملي الصحفي في أوائل ثمانينيات القرن الماضي ، ومع مرور الأيام وثراء التجربة تأكد لي أن رواد العمل الإسلامي في كل مكان - وليس مصر وحدها- خاصة الذين تلتف حولهم الجماهيروتتزاحم علي محاضراتهم ودروسهم وخطبهم ومناظراتهم ومؤلفاتهم يواجهون حربا صامتة من تلك النظم القمعية ،وحملات تشويه وافتراء متواصلة من التيار اليساري والعلماني والمتصهين الذي يتسيد معظم منصات الإعلام ، يقعون تحت ضغط نفسي كبير دون أن يصرحوا بما يتعرضون له ، ولذا كان يبدو علي بعض ردودهم وتعاملاتهم مع الصحافة شيئ من التوجس والحدة ... وقد آليت علي نفسي من يومها أن أكون بقلمي الضعيف بين قافلة المناصرين لهم في مواجهة ما يتعرضون له من حملات وافتراءات ظالمة .
وما حدث مع الشيخ الشعراوي تكرر مع عدد كبير من رجال الدعوة والفكر والسياسة علي امتداد مسيرتي الصحفية مع اختلاف المواقف والقضايا والظروف .
وبعد ....
ماذا عن الشيخ محفوظ نحناح والرئيس محمد مرسي ؟
في مقال قادم إن شاء الله .
------------------------
- مدير تحرير جريدة الشعب المصرية ومجلة المجتمع الكويتية – سابقا