عزت النمر :

لا أحد يعرف الى أي وادٍ سحيق يقود السيسي سفينة الوطن , توالي الخروق يوشك أن يغرق معه ما أبقاه الانقلاب من أركان الوطن والأطلال.

لا أعتقد أن أكثر المتشائمين من الانقلاب ورموزه توقع أن نصل بعد عامين الى هذا الركام الكثيف من الفشل والضياع , على الجانب الآخر لا أحد من دعاة الأنقلاب وداعميه وكارهي الاخوان والتيار الإسلامي توقع لمصر هذا المآل في وعيه أو في كابوس .

الغريب أن التفكك في مفردات الدولة والذي يُنذر بانهيار وشيك لا يتعامل معه أحد باهتمام حقيقي أو حتى بإدعاء كاذب .

الصحة والتعليم والسياحة والخدمات وغيرها ملفات تقوم عليها البلد , والمغامرة بتركها تنهار بهذا الشكل خطيئة في حق الوطن واستقراره ومواطنيه , هل من نصيب لمصر الحالية في أي منظومة للقيم ؟ لا أعتقد !! , فالعدل أصبح ذكرى وحقوق الإنسان غابت عن الواقع المصري سواء لأبناء الوطن وأخيراً زواره وسائحيه.

هناك ملفات الإهتمام بها ليس من باب الترف أو من قبيل مراعاة مشاعر المواطنين أو حتى تجميل الصورة , إنما يجب أن يكون حتى من باب استبقاء الدولة لاستمرار شهوة السلطة وحب التملك.

التقارير الدولية التي تتناول الاقتصاد المصري تدق اجراس الخطر من انزلاق الدولة المصرية الى الهاوية والإنهيار . قد يقول قائل أن هذا لا يعني المسئولين والكبار , أقول قد لا يعنيهم من حيث الاهتمام بالشعب او الإصغاء له أو الحرص عليه , لكنه من غير شك يجب أن يعنيهم من حيث مخاطر ثورة جياع قد تكون مؤشراتها بادية غداً أو بعد حين.

الغريب أن النظام الانقلابي استمرأ الكذب حتى على نفسه , فلم يعد يطرب الا لوصلات النفاق الرخيص من أراجوزاته في السياسة وسخافات وتخاريف الكذب الساذجة من "بهاليله" في الإعلام.

في وسط هذا الجو الخانق من سحابات الفشل وغيامات الضياع يخرج عبد الفتاح السيسي بأشد فصول المأساة والكوميديا في آن واحد , إنها الدعوى الى تعديل الدستور!!. 

تعديل الدستور حسبما أراد الزعيم الملهم وفيلسوف الانقلاب بزعم أنه كُتب بنوايا حسنة , والدول لا تُقام ولا تُبنى بالنوايا الحسنة حسبما قال!!.

لا يمكن فهم مُراد السيسي من تعديل الدستور بعيداً عن الإستعدادات الجارية لإنتخابات البرلمان , ويبدو أن التعديل المنتظر إنما يستهدف إعادة رسم خريطة الملعب التي خططها السيسي وأنصاره أصلاً بعدما غَيَّب الشعب المصري وقواه الحية.

ما يدعو للدهشة والاستغراب أن البرلمان المنتظر لا يُتوقع له الا زُرافات من الفَسَدة وجوقة فاسقة من الفنانين والراقصين وشرذمة قذرة من المنافقين والدجالين وحملة المباخر .
سؤال حان وقته .. ما الذي يلزم السيسي وهو الحاكم بأمره الى ملف البرلمان أصلاً وما حاجته إليه , وهو برلمان السهرة أياها ولن يتعدى فستان سما المصري ولن يجاوز عبقرية توفيق عكاشة وستظهر فيه تجليات مرتضى منصور وفتوحات تامر أمين؟!.

للصدفة البحتة هذا السؤال له إجابة متيقنة وموثوقة , سرَّبها بعض النمامين إثر زيارة وزير الخارجية الامريكي جون كيري والتي التقى فيها السيسي وهي ما تُفسر هذه الهرولة رغم الاستياء والنفور .

السيسي ألقى بعد هذه الزيارة "الثقيلة" بأمر البرلمان وتشكيلته ونوابه الى جهاز المخابرات المصري , وتحت إشراف من نجله "محمود" ورفيقه اللواء سيف اليزل صاحب مهمات المستقبل ونموذج "كمال الشاذلي" ولكن ببزة عسكرية تناسب نسخة الانقلاب .

سؤال العجب في الموضوع .. ما الذي يخيف السيسي من برلمان هذا شكله وتلك بُنْيته ومثل أولئك هم أعضائه ونوابه ؟! , مالذي يقلق الزعيم ــ الذي لن يكون خالداً يوماً ــ من هذا البرلمان السقط والذي سيُولد في حضَّانة المخابرات ؟!.

السبيل الأوحد للإجابة على هذا السؤال وتفكيك العجب فيه يلزم الغوص في عمق "عبقرية" السيسي نفسه, ورغم أنها مهمة بالغة الخطورة حينما تتلبس هذه العبقرية الخالدة وما يحفها من مخاطر, إلا أننا لابد من اقتحامها بحثاً عن السبب والدلالات .

الدلالة الأولى هي الضعف الشديد والجبن هما السمة الظاهرة في شخصية عنترة زمانه المزعوم , يزيدها شكوكه البالغة في امكاناته وفقد الثقة في كل من حوله ومشاركيه .
هذا الضعف وذلك الجبن جعل من الزعيم الحالم يفتقد نموذج مثالي بالنسبة له هو نموذج عدلي "طرطور", ورغم إجراءات تدجين وإخصاء البرلمان القادم ليصبح أكثر انبطاحاً وصمتاً إلا أن مَلَكة الخوف مازالت تسيطر على الزعيم من مستقبل هذا البرلمان البائس الخسيس.

الحل السحري الذي أشاروا به على فيلسوف العصر هو تعديل ما على الدستور , يتناول التعديل المنتظر ثلاثة بنود منها :

التحول الى النظام الرئاسي وتوسيع صلاحيات الرئيس وتضييق صلاحيات البرلمان الجديد 
تغيير أي مادة تعطي حصانة لأحد أو لمؤسسة لتبقى الحصانة الوحيدة هي رضا الزعيم 
إلغاء كل ما يؤدي الى تحديد مدة الرئاسة.

هذا هو الجزء الظاهر في الصورة حتى الآن, وربما انفتحت شهية الزعيم فأضاف تعديلات جديدة قد يكون منها التحول الى الملكية ليصبح الحكم وراثة في نسله الأهطل وذريته الحمقاء.

ما سبق هي الزوايا الحادة والإطار في المشهد, بقي لإكمال الصورة أن نلفت النظر للألوان الباهته فيها والتي هي من نصيب أراجوزات 30 يونيو الذين انقسموا بدورهم تجاه هذا النكتة الجديدة الى ثلاث فرق:

الأول فريق الطبالين وهم من أمثال مصطفى بكري وأحمد موسى ومرتضى منصور , وهؤلاء لبسوا فانلة السيسي وهتاف من عينة تحيا مصر والسيسي كايدهم وحارق دمهم.

الفريق الثاني من أولئك الذين كانوا حالمين بنصيب وسبوبة من أشكال محمد أبو الغار وابراهيم عيسى وأسامة الغزالي حرب وغيرهم, وهؤلاء لبسوا في الحيط وأخذوا كارت أحمر وليس لهم مكان حتى في المدرجات .

أما الفريق الثالث فأولئك المصدومين من بقايا ثورة يناير ومرسي" ديكتاتور" والذي منه , ويبدو أن هؤلاء لبسوا حاجة تانية وليس لهم إلا البكاء في صمت حتى لا يشمت فيهم الثوار والإخوان.

المشهد القريب لم ينته بعد , فماكينة الشؤون المعنوية ستعمل وستبدأ سهرات ليلية لمناقشة المواد المطلوب تعديلها من الدستور , وهتكون حفلات ماتينيه وسواريه في ملاهي الاعلام المصري بحضور "خوابير" تحت الطلب لحياكة و"تقييف" الدستور.

ملاحظة نذكرها ونُذَّكر بها.. 

أن كل الساسة الذين عدلوا الدستور المصري لم يستفيدوا بالتعديلات التي أجروها, فالسادات أجرى تعديلاً على الدستور بفتح مدة الرئاسة في 1980 ولم يستفيد بها واستفاد بها خلفه, وكذلك لم يستفيد مبارك ونجله بحزمة تعديلات الدستور التي أجروها في 2007 لتخطيط الملعب للتوريث, ويقيني أن السيسي عمره قصير.

ولعله لا يبقى في مكانه إلا أقل القليل.