بينما هبطت أسعار النفط العالمية إلى أدنى مستوياتها منذ نحو 5 سنوات، مسجلة أقل من 55 دولاراً للبرميل لخام غرب تكساس الوسيط وحوالي 62 دولاراً لمزيج برنت، تواصل حكومة الانقلاب إصرارها على رفض خفض أسعار الوقود المحلية، متنكرة لوعودها السابقة بأن تسعير الوقود يتم وفقًا لأسعار الشراء في السوق العالمي.

 

التراجع العالمي في الأسعار بنسبة 20% منذ بداية 2025 لم يترجم إلى أي تخفيف على جيوب المواطنين المنهكين بفعل موجات الغلاء المتتالية، في وقت تتشبث فيه الحكومة بمبررات واهية تكشف أن الأمر لا يتعلق بالتكلفة الفعلية بقدر ما يتعلق بنهب منظم لأموال المواطنين لتغطية فشل السياسات الاقتصادية الكارثية.

 

وعود كاذبة.. آلية التسعير "التلقائية" التي تعمل في اتجاه واحد

 

حين رفعت الحكومة أسعار الوقود في يوليو 2023 ومرات عديدة من قبل، كان المبرر الجاهز هو "ارتفاع أسعار النفط العالمية" وضرورة تطبيق "آلية التسعير التلقائية" التي تربط الأسعار المحلية بالأسواق الدولية. اليوم، مع انهيار أسعار النفط إلى مستويات لم نشهدها منذ فبراير 2021، تتبخر تلك الآلية المزعومة ويتضح أنها كانت مجرد غطاء لرفع الأسعار فقط دون خفضها. النفط يسجل 55 دولارًا للبرميل بينما الحكومة حددت 75 دولارًا في موازنة العام المالي 2025-2026، أي أن السعر الفعلي أقل بنحو 27% من المستهدف الحكومي، لكن المواطن لا يرى قرشًا واحدًا من هذا الفارق.

 

المسؤول الحكومي الذي تحدث لموقع "الشرق بلومبيرج" يقدم مبررات عجيبة: "الأسعار الحالية تمثل التكلفة الفعلية"، و"نحسب حصة مصر من النفط المنتج محليًا بصفر"، و"لا يزال هناك دعم خاصة للبوتاجاز". هذه المبررات تتجاهل حقيقة واحدة بسيطة: إذا كان النفط المنتج محليًا بالتعاون مع الشركاء الأجانب يُحسب بصفر، فلماذا لا ينعكس ذلك على أسعار أقل للمواطنين؟ ولماذا تتقلص فاتورة الدعم من 154 مليار جنيه إلى 75 مليار جنيه (خفض بنسبة 50%) في وقت تنخفض فيه الأسعار العالمية؟ الإجابة واضحة: الحكومة تحول الفارق إلى جيوبها بينما يدفع المواطن الثمن كاملًا.

 

نهب ممنهج.. تقليص الدعم رغم انخفاض الأسعار

 

المفارقة الصارخة أن الحكومة قررت تقليص دعم الوقود بنسبة 50% في الموازنة العامة للعام المالي 2025-2026، خاصصة 75 مليار جنيه فقط مقارنة بـ154 مليار جنيه في الموازنة السابقة، وذلك في نفس الوقت الذي تتراجع فيه أسعار النفط العالمية بنحو 20% منذ بداية 2025. المنطق البسيط يقول إن انخفاض الأسعار العالمية يجب أن يخفف العبء على الموازنة ويقلل الحاجة للدعم تلقائيًا، لكن ما يحدث هو العكس تمامًا: الحكومة تخفض الدعم بينما الأسعار العالمية منخفضة، مما يعني أن الهدف ليس ضبط الموازنة بل نهب جيوب المواطنين.

 

تصريحات رئيس الوزراء مصطفى مدبولي في أكتوبر الماضي تكشف التلاعب الواضح. قال: "إذا استمرت أسعار النفط عالميًا عند المستويات الحالية لن نحتاج لزيادة أسعار الوقود حتى بعد مرور عام"، لكنه لم يقل شيئًا عن الخفض رغم أن الأسعار أقل كثيرًا من المستهدف. ثم أضاف: "تحريك سعر الوقود غير مرتبط بسعر برنت فقط"، في تناقض صريح مع ما كانت الحكومة تردده سابقًا من أن التسعير يتبع السوق العالمي. هذا التلاعب اللفظي يكشف أن الحكومة تغير القواعد حسب مصلحتها: عندما ترتفع الأسعار عالميًا "نحن نتبع السوق"، وعندما تنخفض "الموضوع ليس مرتبطًا بسعر برنت فقط".

 

صندوق النقد والمواطن الضحية.. سياسات التقشف على حساب الشعب

 

الجملة الأخيرة من تصريحات مدبولي تكشف اللعبة كاملة: "المستهدفات التي توافقت عليها الحكومة مع صندوق النقد لن تضيف أي أعباء على المواطن ولا تتطرق لملف الطاقة أو دعم الوقود". هذا كذب فاضح. تقليص الدعم بنسبة 50% هو بحد ذاته عبء مباشر على المواطن، والإصرار على عدم خفض الأسعار رغم انخفاضها عالميًا هو عبء إضافي. الحكومة توافق صندوق النقد على سياسات تقشفية تستهدف رفع الدعم تدريجيًا، لكنها تحاول التنصل من المسؤولية بالقول إن "ذلك لن يضيف أعباء".

 

الحقيقة أن المواطن المصري يدفع ثمن السياسات الاقتصادية الفاشلة من جيبه. حين ترتفع الأسعار عالميًا، يدفع الزيادة فورًا. وحين تنخفض الأسعار عالميًا، لا يستفيد بقرش واحد. الحكومة تحتفظ بالفارق لتغطية عجزها المستمر وإرضاء صندوق النقد، بينما يعاني المواطن من موجات غلاء متتالية في الوقود والكهرباء والنقل والسلع الأساسية المرتبطة بأسعار الطاقة. الوقود ليس سلعة ترفيهية، بل هو عصب الحياة اليومية والإنتاج الاقتصادي، وارتفاع أسعاره ينعكس على كل شيء من رغيف الخبز إلى أجرة المواصلات.

 

الشارع المصري ينتظر قرارًا بخفض أسعار الوقود، لكن الحكومة تتجاهل هذا المطلب المشروع بحجج واهية. السؤال الذي يطرح نفسه: إذا كانت الآلية التلقائية لا تعمل إلا في اتجاه واحد، وإذا كان الدعم يتقلص رغم انخفاض الأسعار، وإذا كانت وعود الحكومة بربط الأسعار بالسوق العالمي مجرد كذبة، فما الذي يمنع المواطن من مطالبة حكومة الانقلاب بحقه الطبيعي في الاستفادة من انخفاض الأسعار العالمية؟