مع انطلاق جولة الإعادة في الدوائر الـ19 التي تقرر إلغاء نتائجها، يعود سؤال الشرعية السياسية من بوابة “الهندسة الانتخابية”: هل تنتج هذه العملية برلمانًا يعكس الإرادة العامة أم تُعيد تدوير نفس شبكات النفوذ بآليات أكثر نعومة؟
في هذا السياق، يطرح الدكتور حسام بدراوي نقدًا مباشرًا لنظام “القائمة المغلقة المطلقة”، ويرى أنه يفرغ الانتخابات من معناها، ويحوّلها إلى تعيين مقنّع لصالح “حيتان النظام” في ظل غياب تعدد القوائم والتنافس الحقيقي.
وبينما تتكرر الشكاوى من المال السياسي وتأثيره المُحبط على المزاج العام، تصبح جولة الإعادة اختبارًا مزدوجًا: اختبارًا لثقة الناخب في صوته، واختبارًا لقدرة الدولة على إقناع المجتمع بأن ما يجري “انتخابات” لا “إخراج” سياسي محسوب.
القائمة المغلقة: برلمان “مُعلّب”
يرى بدراوي أن “القائمة المغلقة الوحيدة” تُخرج العملية من نطاق المنافسة إلى نطاق “التزكية الإجبارية”، لأن الناخب لا يختار أفرادًا ولا برامج متعددة، بل يُطلب منه القبول بحزمة جاهزة تُدار بترتيبات فوقية.
جوهر المشكلة هنا ليس تقنيًا فقط، بل سياسي: القائمة المغلقة تقلل مساحة السياسة لصالح الإدارة؛ وتحوّل التمثيل من تعبير اجتماعي متنوع إلى “توزيع مقاعد” يضمن التوازنات التي تريدها السلطة أو شبكات المصالح المرتبطة بها.
هذا النمط يخلق برلمانًا بلا توتر سياسي منتج، أي بلا معارضة حقيقية قادرة على كشف الأخطاء أو تعديل السياسات أو مساءلة الحكومة.
والنتيجة المتوقعة أن يتحول البرلمان إلى غرفة تمرير، أو إلى مساحة خطابات شكلية لا تمسّ صلب القرارات الاقتصادية والاجتماعية التي يدفع المواطن ثمنها.
الأخطر أن استمرار هذا المسار يرسخ لدى الجمهور فكرة أن السياسة “لا تغيّر شيئًا”، وأن الذهاب إلى الصندوق مجرد إجراء إداري لتكميل الصورة، لا لتبديل السياسات أو محاسبة المسؤولين.
كما أن “القائمة المغلقة” تضعف العلاقة المباشرة بين النائب والناس، لأن ولاء النائب يصبح أولاً لمن وضعه على القائمة لا لمن انتخبه.
وهنا يُفقد عنصر حاسم في الديمقراطية: قابلية المحاسبة. فإذا أخفق النائب في الدفاع عن مصالح دائرته، يستطيع غالبًا الاحتماء بمظلة القائمة وبضبابية المسؤولية الجماعية، فتتوزع المحاسبة على الجميع فلا يُحاسَب أحد.
وبذلك تُغلق الحلقة: نظام انتخابي يحدّ من المنافسة، ينتج ممثلين أقل ارتباطًا بالناس، فيزداد نفور الناس، فتزداد قابلية السيطرة على العملية لاحقًا.
المال السياسي: من “انحراف” إلى “نظام”
يحذّر بدراوي من أن الحديث المتكرر عن المال السياسي وتأثيره السلبي يمثل عامل إحباط واسع داخل المجتمع، ويؤكد أن العلاج لا يكون بإجراءات جزئية بل بتغيير جذري في مناخ العمل السياسي.
هذه الجملة تختصر مأزقًا كبيرًا: عندما يصبح المال السياسي قاعدة لا استثناءً، تتحول الانتخابات إلى سوق، ويتحول المرشح إلى مشروع استثمار، ويتحول الناخب إلى “كتلة يمكن شراؤها” أو “خدمة يمكن تسكينها” لا مواطنًا يختار وفق المصلحة العامة.
الأخطر أن المال السياسي لا يعمل منفردًا؛ بل يتشابك مع شبكات خدمات محلية، وعلاقات رجال أعمال، ورموز عائلات، وأحيانًا نفوذ إداري غير مرئي.
وفي ظل نظام انتخابي يعاني من ضعف المنافسة الحزبية والبرامجية، يصبح المال هو اللغة المشتركة الوحيدة: دعم مالي مقابل أصوات، ووعود فردية بدل سياسات عامة، وعطايا موسمية بدل حلول مستدامة.
هكذا تُختطف الدولة مرتين: مرة عندما تُختطف السياسة من المجتمع، ومرة عندما تُختطف التنمية من منطقها العادل لتصبح مكافأة للموالين.
ومن هنا يصبح مفهوم “حيتان النظام” أكثر من مجرد وصف غاضب؛ إنه توصيف لبنية مصالح قادرة على إعادة إنتاج نفسها عبر كل دورة، سواء بالقائمة أو بالفردي أو بتقسيم الدوائر، ما دام المجال السياسي من الأصل مغلقًا أمام التنافس الحقيقي.
لذلك، لا يكفي أن تُعلن الدولة محاربة المال السياسي بينما تترك أسباب ظهوره قائمة: ضعف الأحزاب، غياب الشفافية، محدودية الرقابة، وانكماش المجال العام الذي يسمح بكشف الممارسات وفضحها.
الإعادة كاختبار: استعادة السياسة لا تجميل الإجراء
جولة الإعادة الجارية في الدوائر الـ19 الملغاة تُجرى بقرار من الهيئة الوطنية للانتخابات في مواعيد محددة: يومي 24 و25 ديسمبر في الخارج، ويومي 27 و28 ديسمبر في الداخل، على أن تُعلن النتيجة يوم 4 يناير المقبل.
هذه التواريخ تُحوِّل المسألة من نقاش نظري إلى لحظة تقييم عملي: هل ستُدار الإعادة بما يرمم ثقة المجتمع، أم ستُدار باعتبارها “استكمال مشهد” يجب إنجازه بأقل تكلفة سياسية؟
في النهاية، جولة الإعادة ليست مجرد إعادة تصويت على دوائر محددة؛ إنها إعادة سؤال أكبر: هل ما زال ممكنًا بناء عقد سياسي قائم على المشاركة، أم أن “العملية الانتخابية” تُدار كوسيلة لإعادة توزيع النفوذ بين الكتل الأقوى؟
طرح حسام بدراوي يضع اليد على لبّ الأزمة: الانتخابات ليست صناديق فقط، بل مناخ سياسي كامل؛ فإذا بقي المناخ مغلقًا، ستظل الصناديق مجرد ديكور، وستظل “حيتان النظام” هي الرابح الدائم مهما تغيّرت العناوين.

