شهدت محافظة كفر الشيخ اليوم انقطاع التيار الكهربائي عن 21 قرية وتوابعها ومنطقة في 7 مراكز كاملة، من الثامنة صباحًا حتى الواحدة ظهرًا، بحجة الصيانة الدورية ورفع كفاءة الشبكة. شركة شمال الدلتا لتوزيع الكهرباء قدّمت المشهد كإجراء فني طبيعي، وتحدثت عن «خطة منظمة» و«برنامج زمني دقيق» و«تنسيق بين غرف التحكم والهندسات»، وكأن حياة آلاف الأسر يمكن تعليقها بهذا الهدوء لعدة ساعات متتالية. الواقع أن المواطن الذي يعيش انقطاعًا لساعات في نهار عمل ودراسة لا يرى «خطة تطوير»، بل يشعر بأنه يدفع ثمن عجز مزمن في الاستثمار بالصيانة الحقيقية، وسوء إدارة للشبكة، وتراكم ديون تدفع شركات الكهرباء لتعويض خسائرها على حساب راحته وجيبه.

 

21 قرية تحت المقصلة.. تفاصيل الانقطاع لا تخفي فداحة المشهد

 

قائمة المناطق المتأثرة تعكس حجم الكارثة على الأرض: قرية متبول وتوابعها بمركز كفر الشيخ، الكنيسة والقرديجي، قرى السحماوي والسبايعة والسعادة والروضة بمطوبس، شباس الملح وتوابعها والصوامع وسيد خميس والملاحة، والقصابي والغنايمة وتوابعها، إضافة إلى مصلحة الميكانيكا والكهرباء ومحطات الطلمبات 11، ومجلس قروي الضبعة (4 قرى) بمركز الرياض، وقرية العالمية ببيلا، وقرية البداية بسيدي سالم.

 

انقطاع الكهرباء هنا لا يعني فقط ظلامًا في البيوت، بل توقف ورش صغيرة ومحال، وتعطل مضخات ري وطلمبات، وتكدس في المصالح الحكومية والعيادات، وخطر على كبار السن والمرضى الذين يعتمدون على أجهزة كهربائية. ورغم ذلك، تكتفي الشركة ببيان نمطي يبرر الفصل المؤقت تحت شعار «تحسين جودة التغذية»، دون أي التزام واضح بتعويض المتضررين أو إعلان خطة زمنية شاملة لإنهاء هذه الانقطاعات المتكررة.

 

خطاب الشركة.. تبرير فني لتقصير سياسي واقتصادي

 

لغة شركة شمال الدلتا تقوم على معادلة مكررة: «نفصل اليوم لنحسن الخدمة غدًا»، لكن الغد لا يأتي أبدًا بالشكل الذي وُعد به الناس. لو كانت شبكة الكهرباء قد تم تطويرها بالفعل خلال السنوات الماضية بحجم ما دُفع من قروض ومنح وموازنات، لما بقيت القرى تعيش على وقع انقطاعات يُعلن عنها مسبقًا أو تحدث فجأة بحجة «الأحمال الزائدة». المشكلة أن الصيانة في منطق السلطة تأتي بعد ترك الشبكة تتآكل، وبعد تأجيل الاستثمارات الضرورية لصالح مشروعات استعراضية لا تمس حياة القرى والنجوع. ثم حين يحين موعد دفع الفاتورة، تُقطع الكهرباء عن الفقراء بحجة التطوير، بينما تستمر إضاءة القصور والمنشآت الكبرى بلا انقطاع يُذكر.

 

نفي زيادات الأسعار.. «طمأنة إعلامية» تمهيدًا لصدمات قادمة

 

في الوقت الذي يعيش فيه سكان كفر الشيخ وغيرهم سلسلة انقطاعات مبرمجة وطوارئ، يخرج المتحدث باسم مجلس وزراء الانقلاب محمد الحمصاني ليعلن أنه «لا زيادة جديدة في أسعار الكهرباء في الوقت الحالي»، وأن الحكومة حريصة على «خفض التضخم» و«الشفافية الكاملة في قرارات الأسعار». هذه اللغة أصبحت محفوظة: نفي استباقي لأي زيادة، الحديث عن استقرار، ثم بعد أسابيع أو أشهر يصدر قرار رفع جديد يُبرَّر بالظروف الدولية أو عجز الموازنة أو شروط الإصلاح. الجميع يتذكر كيف قيل إن زيادة أسعار المواد البترولية في أكتوبر الماضي لن تتكرر لمدة عام، بينما تؤكد التسريبات الآن أن الملف مفتوح أمام أي ضوء أخضر من صندوق النقد. نفي الزيادة في خطاب الحكومة لم يعد يبعث على الطمأنينة، بل صار إشارة تحذير إلى أن القرار جاهز ينتظر اللحظة السياسية المناسبة.

 

صندوق النقد يحكم والقرى تدفع الثمن

 

مصادر مطلعة تؤكد أن حكومة الانقلاب تدرس حاليًا زيادة أسعار الكهرباء تنفيذًا لتعهدات قديمة لصندوق النقد الدولي برفع الدعم الكامل عن الطاقة، وتجنيب الموازنة دعم الشرائح المنزلية تدريجيًا. لذلك تبحث السلطة عن توقيت لا يثير غضبًا شعبيًا واسعًا، في ظل احتقان اجتماعي متصاعد بسبب الغلاء وانهيار الدخول. في هذا السياق، تتحول انقطاعات كفر الشيخ وغيرها إلى وجه من وجوه التحضير النفسي: شبكة ضعيفة، خدمة رديئة، ثم يقال للناس لاحقًا إن «الزيادة ضرورية لتحسين الخدمة ومنع الانقطاع». الحقيقة أن المواطن يُطلب منه أن يدفع أكثر مقابل نفس مستوى التدهور، بل ربما أسوأ، بينما تبقى بنية الفساد والهدر في قطاع الكهرباء والطاقة على حالها دون محاسبة أو مراجعة لجذور العجز.

 

ظلام اليوم مقدمة لفاتورة الغد

 

ما حدث في كفر الشيخ اليوم ليس حادثًا عابرًا، بل نموذج لما ينتظر المصريين في الشهور المقبلة: انقطاعات مبررة ببيانات فنية، ووعود إعلامية بعدم رفع الأسعار، وفي الخلفية تفاوض على زيادات جديدة لصالح صندوق النقد ومنظومة الديون. المواطن في قرى متبول والسبايعة وشباس الملح والعالمية والبداية لا يهمه بيان «خطة الصيانة» بقدر ما يهمه أن يجد كهرباء مستقرة وفاتورة يمكنه دفعها من راتب منهك. تجاهل هذا الواقع، والاستمرار في سياسة الإنكار والنفي، لن يمنع الغضب من التراكم، بل سيجعله أكثر خطورة عندما يكتشف الناس أنهم عاشوا في العتمة اليوم، ليُطلب منهم غدًا أن يدفعوا ثمنًا أعلى لنفس الظلام.