طائرة فاخرة في بلد مأزوم وصول الطائرة الرئاسية الجديدة من طراز بوينج 747-8، الملقبة بـ«ملكة السماء»، إلى مطار القاهرة مثّل حدثًا ضخمًا من حيث التكلفة والرمزية في آن واحد.
الطائرة التي تصل قيمتها التقديرية إلى نحو 800 مليون دولار، مع تجهيزات فاخرة وأنظمة اتصالات ودفاع متطورة، تهبط في بلد يرزح تحت تضخم مرتفع وفقر متزايد وغياب شبه كامل للطبقة الوسطى.
ورغم ضخامة الحدث، غابت المؤسسات الرقابية والإعلامية والتنفيذية عن نقاش جاد وشفاف حول الصفقة، وكأن الأمر شأن خاص بالرئيس لا مال عام يخص شعبًا بأكمله.
إعلام تحت الحصار: منابر ترويج لا منابر رقابة
المشهد الإعلامي الرسمي والخاص الموالي للسلطة لم يتعامل مع «ملكة السماء» كقضية رأي عام، بل كفيديوهات احتفالية أو مواد ترويجية تتحدث عن “هيبة الدولة” و“فخر المصريين”.
التركيز انصب على اللقطات البصرية لهبوط الطائرة وحجمها وفخامتها، مع تغييب كامل لأسئلة التكلفة، وأولويات الإنفاق، ومن يتحمل عبء الديون الناتجة عن هذه الصفقات في ظل أوضاع اقتصادية خانقة.
في المقابل، تولّت منصات المعارضة والبرامج السياسية المستقلة كشف أرقام تقريبية عن تكلفة شراء وتجهيز الطائرة، والتي وصلت في بعض التقديرات إلى ما يقارب 800–900 مليون دولار بعد احتساب التجهيزات الخاصة والأمنية.
هذه الأرقام تعني عمليًا عشرات المليارات من الجنيهات، في وقت تعجز فيه الدولة عن توفير خدمات أساسية بمستوى إنساني لائق للمواطنين.
مؤسسات رقابية غائبة أم مُغيَّبة؟
المفترض أن تكون جهات مثل البرلمان، والجهاز المركزي للمحاسبات، والهيئات الرقابية المالية، أول من يسأل: لماذا الآن؟ ما مصدر التمويل؟ وما هي جدوى هذه الطائرة مقارنة بأولويات الصحة والتعليم والدعم؟ لكن ما حدث هو صمت تام، يعكس واقع دولة حوّلها عبد الفتاح السيسي إلى «إدارة فرد واحد» لا تُسائل قراراته، ولا تُراجع إنفاقه.
هذا الصمت المؤسسي ليس استثناءً، بل حلقة في سلسلة؛ نفس المشهد تكرر مع القصور الرئاسية الجديدة، ومشروعات العاصمة الإدارية، والديون الخارجية المتصاعدة، حيث يتم التعامل مع المال العام كملكية شخصية، بينما تُستخدم المؤسسات الرقابية كديكور شرعي لا كأدوات مساءلة حقيقية.
بذلك يتحول البرلمان من سلطة تشريع ورقابة إلى غرفة تصفيق، وتتحول الأجهزة الرقابية إلى أدوات حماية للنظام لا حماية للمجتمع.
السلطة التنفيذية: رفاهية فوق أنقاض المجتمع من غير المقبول أن تتباهي السلطة التنفيذية بطائرة فاخرة تحمل رئيسها بينما يعيش أكثر من ثلث الشعب تحت خط الفقر، وتعاني أغلبية المصريين من الغلاء والبطالة وانهيار الخدمات.
إن طائرة بهذا الحجم والتكلفة ليست مجرد وسيلة نقل، بل رسالة سياسية واضحة: رفاهية الحاكم فوق معاناة المحكومين، وأولوية «كمالية» تُقدَّم على حساب احتياجات الناس الأساسية.
السيسي، الذي لم يتوقف عن مطالبة المصريين بـ“التقشف” و“الصبر” و“شد الحزام”، يرسل بإصراره على هذه الطائرة إشارة ازدراء لوعي المواطن وكرامته.
كيف يُطلب من الناس قبول رفع الدعم، وتعويم العملة، وتحمّل موجات غلاء متتالية، بينما تُنفق مئات الملايين من الدولارات على طائرة رئاسية جديدة بديلة لطائرة لا تزال قادرة على أداء مهمتها؟
وأخيرًا.. ملكة السماء… وعبودية الأرض
صمت المؤسسات الرقابية والإعلامية والتنفيذية عن صفقة «ملكة السماء» ليس خطأً عابرًا، بل دليل على انهيار منظومة الحكم الرشيد وغياب أي توازن بين السلطة والمسؤولية في مصر.
في دولة طبيعية، مثل هذه الصفقة تفتح نقاشًا برلمانيًا علنيًا، وتحقيقات رقابية، وتغطية إعلامية تسأل عن جدوى القرار، لا مقاطع دعائية تمجّد “هيبة الرئيس” فيما الشعب يئن تحت ضغوط اقتصادية غير مسبوقة.
السيسي يتحمل المسؤولية الأولى عن هذا المسار؛ فهو من حوّل مؤسسات الدولة إلى أذرع تنفيذ لأوامره، لا حائط صد لحماية المال العام وحقوق المواطنين.
وبينما تحلّق «ملكة السماء» في أجواء الرفاهية الرئاسية، يبقى ملايين المصريين أسرى لأرض الفقر والديون، بلا أفق حقيقي لإصلاح سياسي أو اقتصادي في ظل استمرار هذه العقلية الاستبدادية المستهينة بالرقابة والإعلام والشعب معًا.

