توقّع استطلاع لوكالة "رويترز" ارتفاع التضخم السنوي في مدن مصر إلى 13.1% في نوفمبر، مواصلاً الصعود للشهر الثاني على التوالي بعد فترة قصيرة من التباطؤ، في مؤشر واضح على أن رواية حكومة الانقلاب عن "السيطرة على الأسعار" ليست سوى وهم إعلامي لا علاقة له بحياة الناس. الأرقام تكشف أن موجات الغلاء عادت لتشتعل مدفوعة بارتفاع أسعار التبغ والكحول والنقل، في وقت يعاني فيه المواطن من تآكل شبه كامل في قدرته الشرائية بعد سنوات من التعويم والضرائب والرسوم غير المسبوقة. وبينما يتباهى النظام بحزم دعم وتمويلات خارجية، يظل المواطن هو الحلقة الأضعف الذي يدفع ثمن كل قرار كارثي، من الاقتراض المفرط إلى تحرير الأسعار وترك السوق لاحتكارات متغوِّلة.

 

تضخم متصاعد ورواية رسمية مُضلِّلة

 

الاستطلاع أظهر أن متوسط توقعات 14 محللاً يشير إلى ارتفاع التضخم في المدن إلى 13.1% خلال نوفمبر، بعد أن سجل 12.5% في أكتوبر منهياً أربعة أشهر متتالية من التراجع. هذا يعني أن موجة "الانفراج الوهمي" في الأسعار كانت مؤقتة ومرتبطة بعوامل موسمية أو إجرائية، بينما الاتجاه الحقيقي للاقتصاد ما زال تصاعديًا في الغلاء. حتى التضخم الأساسي، المستبعد منه السلع الأكثر تقلبًا مثل بعض الأغذية والوقود، من المتوقع أن يصعد إلى 12.4% مقابل 12.1% في أكتوبر، ما يؤكد أن الضغط السعري عميق وممتد، وليس قاصرًا على سلع محدودة أو ظرف مرحلي. ومع ذلك، تواصل حكومة الانقلاب الترويج لخطاب "الاستقرار" و"التحسن التدريجي"، متجاهلة أن أي تحرك جديد في الأسعار يعني كابوسًا إضافيًا لملايين الأسر التي تعيش على حافة الفقر أو سقطت تحته بالفعل.

 

أسعار مُدارة وسياسات تخدم القلة

 

تقديرات بيوت خبرة دولية أشارت إلى أن موجة التضخم الأخيرة يقودها بشكل أساسي ارتفاع أسعار الكحول والتبغ ثم النقل، نتيجة قرارات رسمية برفع الأسعار المدارة، وليس فقط بفعل قوى السوق الطبيعية. هذا يعني أن الدولة نفسها شريك مباشر في إشعال الغلاء، عبر ضرائب ورسوم وزيادات مخطَّط لها سلفًا، بينما تتذرع بالتضخم العالمي أو اضطراب سلاسل الإمداد. وفي المقابل، يتراجع أثر أي انخفاض نسبي في أسعار بعض المواد الغذائية بسبب عوامل موسمية، لأن المواطن يصطدم كل يوم بفاتورة مواصلات أعلى، وفواتير خدمات تتضخم، وسلع استهلاكية تخرج تدريجيًا من متناول دخله المحدود. حين تصبح الدولة جابيًا للفوائد والضرائب أكثر منها حاميًا للمستهلك والأسرة، يصبح التضخم أداة سياسية واقتصادية لإعادة توزيع الثروة من جيوب الفقراء إلى خزائن السلطة والدوائر المحيطة بها.

 

المعروض النقدي والانفجار السعري

 

البيانات الرسمية للبنك المركزي نفسه تظهر أن المعروض النقدي (ن2) نما بأكثر من 21% على أساس سنوي في أكتوبر، وهو رقم ضخم في اقتصاد يعاني من ضعف الإنتاج الحقيقي واعتماده على الاستيراد والإنفاق الحكومي غير المنتج. ضخ هذه الكميات من السيولة في اقتصاد مكبّل بالديون وضعيف القاعدة الصناعية يعني عمليًا تغذية مباشرة للتضخم، لأن المزيد من النقود يطارد نفس السلع المحدودة أو المستوردة، فيرتفع السعر تلقائيًا. هنا يتضح تناقض جوهري في سياسات حكومة الانقلاب: من جهة تتحدث عن محاربة التضخم، ومن جهة أخرى تواصل الاقتراض والإنفاق بالعُملة المحلية، وتوسيع المعروض النقدي بشكل يضمن استمرار ارتفاع الأسعار، مع تحميل المواطن وحده تبعات كل هذا العبث.

 

من 38% إلى 13%: هل تحسّن حقيقي أم تلاعب بالأرقام؟

 

صحيح أن التضخم تراجع من مستوى قياسي بلغ 38% في سبتمبر 2023 إلى مستويات أقل في 2024، لكن هذا الهبوط لم يأتِ مجانًا، بل كان مشروطًا بحزمة دعم وتمويل خارجي بقيمة 8 مليارات دولار مرتبطة باتفاق مع صندوق النقد الدولي، تزامنت مع موجة جديدة من التقشف ورفع الدعم وبيع الأصول العامة. ما يغفله الخطاب الرسمي أن انخفاض التضخم من 38% إلى 13% لا يعني عودة الأسعار إلى ما كانت عليه، بل يعني ببساطة أن الأسعار استقرت عند مستوى مرتفع جدًا، ثم واصلت الارتفاع بوتيرة أبطأ، قبل أن تعود الآن لتسارع نسبيًا. أي أن المواطن يعيش فوق جبل من الأسعار المضاعَفة أساسًا، ويواجه الآن موجة جديدة من الصعود فوق هذا الجبل، بينما دخله لم يلحق بأي درجة بهذا المسار الجنوني.

 

خفض الفائدة: دعم للمضاربين لا للمواطن

 

تباطؤ التضخم في فترة سابقة شجّع البنك المركزي على خفض أسعار الفائدة 100 نقطة أساس في أكتوبر و200 نقطة في أغسطس، في خطوة رُوِّج لها باعتبارها دعمًا للنمو والاستثمار. لكن في اقتصاد يدار لمصلحة كبار المستوردين والمضاربين على الأصول، لا يعني خفض الفائدة سوى تقليل العائد الحقيقي للمدخرين الصغار، وسحب آخر أدوات حماية الطبقة الوسطى من التآكل أمام التضخم. في المقابل، يستفيد كبار المقترضين من أموال أرخص نسبيًا، بينما يظل الإنتاج الحقيقي مكبّلًا بعوائق بيروقراطية وسيطرة جهات سيادية على قطاعات واسعة. وبينما تستعد لجنة السياسة النقدية للاجتماع في 25 ديسمبر لمراجعة أسعار الفائدة، يبدو واضحًا أن همّ النظام الأول هو إرضاء صندوق النقد والمستثمرين، لا إنقاذ المصريين من موجات غلاء تسرق ما تبقّى من طاقتهم على الاحتمال، وتحوّل الحديث عن "استقرار الأسعار" إلى نكتة سوداء في زمن الانقلاب الاقتصادي والاجتماعي.