تصاعد القتال في ولايات كردفان يحوّل الإقليم إلى حقل تجارب دموي لمليشيا الدعم السريع وحلفائها الإقليميين، وعلى رأسهم الإمارات، التي تُتهم بتغذية آلة الحرب بالطائرات المسيّرة والمال والسلاح عبر شبكات تهريب وتمويل ملتوية. الهجمات الأخيرة على الأحياء السكنية في مدينة الأبيض، بالتوازي مع حصار بابنوسة غربًا، تكشف أن الهدف لم يعد “مواقع عسكرية” بل كسر المجتمع وفرض وقائع بالقوة تمهيدًا لتفكيك السودان وتحويله إلى خرائط نفوذ تخدم أبوظبي.

 

الأبيض تحت رحمة المليشيا الجوية

 

الهجوم بالمسيّرات على منطقة “طقت” السكنية في مدينة الأبيض يجسد تحوّل الدعم السريع إلى ما يشبه “مليشيا جوية” تستبيح المدن وتقصف أحياء مكتظة بلا أهداف عسكرية واضحة، في انتهاك فج لقوانين الحرب. تحليق المسيّرة على ارتفاع منخفض قبل ضرب حيّ مأهول يؤكد أن المقصود هو نشر الرعب وكسر معنويات السكان، لا تحقيق مكسب عسكري، تمهيدًا لفتح ثغرات اجتماعية تجعل اقتحام المدينة أسهل وأقل كلفة للميليشيا. هذا الأسلوب يعيد إلى الأذهان تكتيكات العصابات التي تستخدم المدنيين كورقة ضغط، في تناقض كامل مع ادعاءات حميدتي عن “حماية الشعب”.

 

بابنوسة.. خنق غرب كردفان وتجويعها

 

في بابنوسة، تتعامل مليشيا الدعم السريع مع المدينة كهدف حصار شامل؛ هجمات متكررة على الفرقة 22 مشاة، قصف مدفعي وضربات بمسيّرات على محيط المعسكر، ومحاولة مستمرة لقطع خطوط الإمداد التي تربط شمال كردفان ودارفور. أهمية بابنوسة لا تقتصر على بعدها العسكري، فهي عقدة مواصلات تمر عبرها القوافل التجارية والوقود والسلع الأساسية، ما يعني أن سقوطها في يد المليشيا سيخنق غرب كردفان ويضاعف المجاعة والنزوح في الإقليم كله. التقارير الميدانية تشير إلى أن الجيش اضطر لتنفيذ عمليات إنزال جوي لتزويد الفرقة 22 بالإمدادات، في مؤشر على شراسة الحصار الذي تفرضه قوات حميدتي على المدينة وسكانها.

 

الإمارات.. ممول الحرب وعرّاب “المليشيا الجوية”

 

الطفرة المفاجئة في استخدام الطائرات المسيّرة الهجومية، ودقة الضربات فوق مدن كردفان ودارفور، لا يمكن فصلها عن الاتهامات المتزايدة بتورط الإمارات في تزويد الدعم السريع بالتكنولوجيا القتالية والتمويل عبر قنوات سرية وشركات أمنية خاصة. تدريب طواقم على تشغيل مسيّرات هجومية، وتأمين قطع الغيار وأنظمة التوجيه، يتجاوز قدرات مليشيا قبلية نشأت في أحراش دارفور، ويشير بوضوح إلى وجود عقول وخبرات أجنبية تدير هذا الملف لحساب أبوظبي. في المقابل، تحصد الإمارات مكاسبها عبر السيطرة على الذهب وشبكات التهريب وفتح ممرات نفوذ تمتد من البحر الأحمر إلى عمق الساحل الأفريقي، بينما يدفع السودانيون ثمن هذه “الاستثمارات” جثثًا ودمارًا وخرابًا طويل الأمد.

 

حرب تجويع ممنهجة وكارثة إنسانية وشيكة

 

اشتداد المعارك حول الأبيض وبابنوسة ومعابر الإمداد يحوّل كردفان إلى عنق زجاجة إنساني؛ التقارير الأممية حذّرت من أن قطع الطرق سيحرم مئات الآلاف من آخر شرايين الإمداد الغذائي والدوائي في وسط السودان، في وقت يتحدث فيه خبراء الإغاثة عن موجات نزوح جماعي ونقص حاد في الغذاء والدواء. استمرار قصف المدن بالمسيّرات والمدفعية – من الجيش والدعم السريع معًا – يهدد بانهيار كامل للهياكل المدنية، وتكرار سيناريو الفاشر من حصار وتجويع ومجازر، لكن هذه المرة على مساحة أوسع تمتد من غرب كردفان إلى شمالها. وفي ظل غياب إرادة دولية حقيقية لفرض حظر سلاح أو مساءلة الداعمين الخارجيين، يتحول المدنيون إلى رهائن في حرب بالوكالة لا تعني لحميدتي ولا لمحمد بن زايد سوى المزيد من النفوذ والثروة.

 

مسؤولية دولية عن جرائم حرب بالوكالة

 

الهجمات العشوائية بالمسيّرات على الأحياء السكنية، والحصار المتعمد للمدن وطرق الإمداد، واستخدام مليشيا مدعومة خارجيًا كأداة لتفكيك دولة ذات سيادة، كلها عناصر تكفي لفتح ملفات جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في كردفان ودارفور. إذا استمر الإفلات من العقاب، وبقي دور الإمارات في دعم الدعم السريع دون تحقيق دولي شفاف وعقوبات رادعة، فإن ما يجري اليوم في الأبيض وبابنوسة لن يكون سوى محطة في مسار أوسع لتقسيم السودان وتحويله إلى ساحات نفوذ لشبكات السلاح والذهب. الضغط على هذه الحلقة – دعم أبوظبي للمليشيا وتدفق المسيّرات والسلاح – هو المدخل الحقيقي لأي وقف نار جاد، أما الاكتفاء ببيانات الشجب فمعناه ترك كردفان تحترق تحت جناح مسيّرات حميدتي وشيكات بن زايد.