بعد أكثر من عقد من الدبلوماسية التي وصفها مراقبون بـ"المترددة وغير الحاسمة"، تجد مصر نفسها اليوم في مواجهة واقع مرير فرضه سد النهضة الإثيوبي. فبعد أن كان نهر النيل هبة الحياة لمصر على مر العصور، تحول في ظل الإدارة الحالية إلى مصدر قلق وجودي، حيث تقف الحكومة وعبد الفتاح السيسي في موقف المتفرج على إثيوبيا وهي تفرض سيادتها الكاملة على النهر، متجاهلةً حقوق دولتي المصب التاريخية والقانونية.
ورغم التصريحات الرنانة التي يطلقها السيسي بين الحين والآخر، والتي كان آخرها تحذيره بأن مصر "لن تقف مكتوفة الأيدي"، فإن هذه التهديدات تبدو جوفاء في ظل اكتمال السد وتشغيله بشكل أحادي، الأمر الذي يراه منتقدون نتيجة طبيعية لفشل استراتيجي بدأ منذ التوقيع على اتفاق المبادئ في 2015، والذي أضفى شرعية على مشروع السد دون الحصول على أي ضمانات ملزمة.
لقاء القاهرة: محاولة متأخرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه
في لقاء جرى يوم أمس، 15 أكتوبر 2025، بين السيسي ورئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، حاولت القاهرة والخرطوم إظهار جبهة موحدة، حيث جدد الطرفان رفضهما القاطع للإجراءات الأحادية الإثيوبية.
لكن هذا الموقف، رغم أهميته الرمزية، يأتي متأخراً جداً، فالإجراءات الأحادية لم تعد مجرد تهديد مستقبلي، بل أصبحت أمراً واقعاً تسبب بالفعل في فيضانات غير مسبوقة بالسودان ومناطق في مصر، نتيجة "الإدارة غير المنضبطة" للسد من قبل أديس أبابا.
ويرى خبراء أن هذه اللقاءات، التي تقتصر على "التأكيد" و"التشديد" على مواقف تجاوزها الواقع، تعكس عجزاً سياسياً عن إجبار إثيوبيا على العودة إلى طاولة المفاوضات الجادة، وتترك مصر والسودان في موقف رد الفعل الدائم.
بحيرة ناصر: أمان زائف يخفي كارثة محتملة
على عكس ما قد يبدو للوهلة الأولى، فإن ارتفاع منسوب المياه في بحيرة ناصر حالياً، والذي جاء نتيجة لموسم فيضان غزير، لا يمثل نجاحاً للحكومة المصرية بقدر ما يمثل "ستاراً من الحظ" يخفي وراءه هشاشة الموقف المائي المصري.
فبينما تسارع الحكومة لنفي أي أنباء عن انخفاض المنسوب، يحذر خبراء مثل د. نادر نور الدين من أن نجاة مصر من التداعيات الخطرة حتى الآن ترجع إلى "الصدفة وحدها" وليس إلى تخطيط استباقي.
إن الاعتماد على رحمة الطبيعة لتجنب كارثة هو دليل على فشل السياسة وليس نجاحها. الخطر الحقيقي، كما يؤكد الخبراء، سيظهر في سنوات الجفاف، حينها ستكون مصر تحت رحمة قرار إثيوبي منفرد قد يحرمها من حصتها المائية الحيوية، وهو ما فشلت حكومة السيسي في تأمين أي حماية ضده.
تحذيرات الخبراء: "قنبلة مائية" موقوتة
تتفق آراء الخبراء المستقلين على أن السياسات الحالية قد وضعت مصر في مواجهة "قنبلة مائية موقوتة"، وهو الوصف الذي استخدمه د. عباس شراقي، أستاذ الموارد المائية، لوصف سد النهضة في ظل غياب اتفاق ملزم. ويحذر شراقي من أن التشغيل العشوائي للسد يمكن أن يتسبب إما في فيضانات مدمرة، كما حدث مؤخراً، أو في موجات جفاف حادة.
من جانبه، يشير د. خالد أبو زيد، الخبير الدولي، إلى أن غياب الاتفاق يؤدي إلى فواقد مائية هائلة تصل إلى 5 مليارات متر مكعب سنوياً نتيجة التبخر والتسرب، وهي كميات تقتطع مباشرة من حصص مصر والسودان، خاصة في أوقات الشح المائي. هذه التحذيرات، التي تجاهلتها الحكومة لسنوات، تمثل شهادة على أن الإدارة الحالية لم تفشل فقط في حماية الحقوق المائية، بل تركت الأمن القومي المصري رهينة لقرارات أديس أبابا وتقلبات الطبيعة