في مشهد يجسد تناقض الأولويات في إدارة الدولة المصرية للتراث القومي، تحولت منطقة أهرامات الجيزة – رمز الحضارة الإنسانية وأحد أهم معالم التراث العالمي – إلى ساحة مفتوحة للحفلات الصاخبة والفعاليات التجارية التي تعبث بقدسية المكان وتعرض بنيانه العتيق للخطر. وبينما تبرر الحكومة هذه الأنشطة بأنها تأتي في إطار “تطوير السياحة وجذب الاستثمارات”، يرى المراقبون أن ما يحدث ليس سوى استثمار جائر في حساب التاريخ، يخدم مصالح رجال أعمال نافذين على رأسهم نجيب ساويرس، الذي يهيمن عبر شركته على إدارة المنطقة الأثرية تحت غطاء “التطوير”.

 

عندما يتحول التراث إلى سلعة

لم يعد مشهد الأهرامات عند غروب الشمس لوحة مهيبة تروي أمجاد الفراعنة، بل صار ميداناً للضجيج والأضواء البراقة. حفلات غنائية تقام في قلب المنطقة الأثرية، تصدح فيها الموسيقى بمكبرات ضخمة تصدر ذبذبات قوية حذر منها خبراء الآثار، مؤكدين أنها تهدد تماسك البناء الحجري الذي صمد آلاف السنين. كما تُستخدم أجهزة ليزر وإضاءة مخالفة للمعايير الدولية في التعامل مع المواقع الأثرية الحساسة. أما القمامة والمخلفات التي تتركها هذه الفعاليات، فقد أصبحت مشهداً مألوفاً يسيء إلى سمعة المكان وهيبته.

النتيجة كانت استياء واسع في الأوساط الأثرية والحقوقية. فقد تقدم المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بدعوى أمام القضاء الإداري للمطالبة بوقف هذه الحفلات، استناداً إلى الدستور وقانون حماية الآثار واتفاقية “يونسكو” لحماية التراث العالمي. وطالب الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للآثار، الدكتور محمد عبد المقصود، بوقف إقامة أي فعاليات فنية في المواقع الأثرية، مؤكداً أن هذه الممارسات “تشوه الأثر وتنال من قدسيته وتؤثر سلباً على عمره الافتراضي”.

 

نجيب ساويرس: من المستثمر إلى المتهم

وسط هذه العاصفة، يقف اسم نجيب ساويرس في قلب الجدل. فمنذ أن حصلت شركته "أوراسكوم بيراميدز" عام 2018 على عقد إدارة وتشغيل الخدمات في منطقة الأهرامات، رفعت الحكومة شعار “الشراكة مع القطاع الخاص” لتحسين تجربة الزائرين. غير أن ما تحقق على الأرض خالف الوعود: بدلاً من تطوير السياحة الثقافية والحفاظ على التراث، تحولت المنطقة إلى منصة للأنشطة التجارية والحفلات التي لا تمت للهوية الحضارية بصلة.

المفارقة أن ساويرس نفسه لا يتوقف عن انتقاد “الفوضى” المحيطة بمداخل الأهرامات، متهماً ما سماهم “العصابات والبلطجية” بتشويه صورة السياحة المصرية. لكن هذه التصريحات تبدو مثيرة للسخرية حين تصدر ممن يدير مشروعاً يتيح إقامة حفلات ضخمة تهدد سلامة الأثر. فكيف يمكن لرجل يزعم الغيرة على سمعة الأهرامات أن يغض الطرف عن انتهاكها بهذا الشكل الفج؟

الحقيقة أن ساويرس، المعروف بعلاقاته الوثيقة بدوائر السلطة، يبدو مستفيداً من صمت الحكومة، التي لم تحرك ساكناً رغم التحذيرات المتكررة من الخبراء. فبدلاً من ممارسة رقابة حقيقية على الأنشطة داخل المنطقة الأثرية، اكتفت وزارة السياحة والآثار بتصريحات إنشائية حول “تطوير الخدمات” و”تحسين تجربة الزائر”، وكأن حماية الأثر آخر ما يشغلها.

 

الدولة شريك في الجريمة

المسؤولية لا تقع على المستثمر وحده، بل تمتد إلى الحكومة التي سمحت بتحويل أحد أهم مواقع التراث الإنساني إلى مشروع تجاري. فالدولة التي تتحدث عن “رؤية 2030” للتنمية المستدامة، تتجاهل تماماً البعد الثقافي والحضاري في إدارتها للمواقع التاريخية، وتتعامل مع الأهرامات كما لو كانت “مولاً سياحياً” يمكن تأجيره لمن يدفع أكثر.

هذا التواطؤ بين رأس المال والسلطة ليس جديداً، لكنه بلغ ذروته في هذه القضية. فبدلاً من أن تكون الأهرامات رمزاً للهوية المصرية، أصبحت مسرحاً لصراع المصالح، حيث تتقدم اعتبارات الربح السريع على مسؤولية الحفاظ على التاريخ.

 

بين الإهمال والجشع… من يدافع عن الأهرامات؟

القضية تكشف عن أزمة أعمق تتعلق بعلاقة النظام الحالي بالتراث الوطني. فبين مشاريع “التطوير” التي تشوه هوية القاهرة القديمة، وتهميش المتخصصين في علم الآثار، وتقديم المستثمرين على العلماء، يبدو أن الدولة اختارت طريقاً خطيراً يجعل من التاريخ نفسه سلعة للمزاد.

ومع استمرار الحفلات وغياب الرقابة والمحاسبة، يظل السؤال المؤلم معلقاً: من يحمي الأهرامات من الدولة ورجال أعمالها؟

في ظل هذا التواطؤ، يخشى أن يأتي يوم يُذكر فيه أن حضارة امتدت لسبعة آلاف عام انتهت على يد من رفعوا شعار “التنمية”، بينما كانوا يهدمونها باسم “التطوير”.