تشهد بيئة الاستثمار وريادة الأعمال في مصر أزمة تمويلية خانقة تهدد بوقف نمو الشركات الناشئة وتفاقم تعثر آلاف المشروعات الصغيرة والمتوسطة. تقديرات مؤسسات دولية وصناديق استثمارية تشير إلى أن الفجوة التمويلية لهذا القطاع تتجاوز ملياري دولار سنويًا، في ظل غياب رؤية حكومية واضحة لمعالجة الاختلال بين احتياجات التمويل الفعلية وما يُضخ فعليًا من رؤوس أموال.

 

فجوة ضخمة وتراجع في الثقة

بحسب تصريحات علاء نصر الدين، عضو مجلس إدارة غرفة صناعة الأخشاب وعضو لجنة التعاون العربي باتحاد الصناعات، فإن هذه الفجوة التمويلية تعكس خللًا هيكليًا في السياسات الاقتصادية الموجهة نحو دعم الشركات الناشئة، موضحًا أن الدولة تكتفي بإطلاق مبادرات إعلامية دون توفير آليات واقعية لتدفق رؤوس الأموال.

وأشار نصر الدين إلى أن معالجة هذه الأزمة تتطلب تحقيق توازن بين مصادر التمويل المحلية والدولية، إلى جانب إصلاح بيئة التشريعات والإجراءات التنظيمية بما يخلق سوقًا استثماريًا متينًا وقادرًا على استيعاب الأفكار والمشروعات الجديدة.

وأضاف أن المناخ الحالي، الذي يتسم بعدم الاستقرار الاقتصادي وغياب الشفافية، جعل المستثمرين المحليين والأجانب أكثر تحفظًا، ما أدى إلى انكماش الاستثمارات الموجهة لقطاع ريادة الأعمال بنسبة كبيرة خلال العامين الماضيين.

 

الشراكات الاستراتيجية كطوق نجاة

وشدد نصر الدين على أن ضخ رؤوس الأموال في الشركات الناشئة لا يُعد مجرد دعم اقتصادي، بل هو فرصة لتحقيق عوائد استثمارية مرتفعة، خاصة في ظل الإمكانات الابتكارية الكبيرة التي تملكها تلك الشركات في مجالات التكنولوجيا، الطاقة المتجددة، والخدمات الرقمية.

واقترح تبنّي سياسة الشراكات الاستراتيجية بين الشركات الكبرى والناشئة، بما يتيح لهذه الأخيرة فرصًا تجريبية في السوق الحقيقي، ويمكّنها من الوصول إلى مستثمرين دوليين مؤسسيين.

وأكد أن مثل هذه الشراكات قادرة على جذب التمويل الخارجي وتوسيع فرص العمل، شريطة أن تتوفر بيئة قانونية وتنظيمية مستقرة تحمي حقوق المستثمرين وتحدّ من البيروقراطية الحكومية.

 

وعود حكومية بلا تنفيذ

وفي المقابل، تُصر حكومة مدبولي على الترويج لما تصفه بـ"جهود دعم ريادة الأعمال"، عبر مبادرات تزعم أنها تستهدف تحسين المناخ الاستثماري وتوفير التسهيلات للشركات الناشئة.

لكن نصر الدين يرى أن هذه التصريحات بعيدة تمامًا عن الواقع، إذ لم تُترجم إلى خطوات ملموسة على الأرض، بينما يواصل القطاع تراجعه بفعل غياب الدعم المالي واللوجستي، وتفاقم أزمة الدولار التي عطلت تمويل الاستيراد ورفعت تكاليف التشغيل.

وأوضح أن الحكومة تركّز على الصورة الإعلامية أكثر من المضمون، مشيرًا إلى أن بياناتها حول خلق فرص عمل جديدة أو جذب استثمارات خارجية لا تستند إلى أرقام حقيقية، بل إلى تقديرات غير موثقة تُستخدم لتجميل المشهد الاقتصادي أمام المانحين والمؤسسات الدولية.

 

مصانع متعثرة وبيئة خانقة

الأزمة لا تقتصر على الشركات الناشئة فقط، بل تمتد إلى القطاع الصناعي ككل. فبحسب بيانات رسمية متداولة داخل اتحاد الصناعات، أكثر من 70 ألف مصنع وشركة في مختلف المحافظات تعاني من التعثر أو الإغلاق شبه الكامل، نتيجة نقص التمويل وارتفاع أسعار الطاقة وضعف القدرة الشرائية.

ويرى نصر الدين أن استمرار تجاهل هذه الكارثة الاقتصادية يعني ضياع آلاف فرص العمل وتآكل القاعدة الإنتاجية المحلية، وهو ما سيؤدي إلى تفاقم البطالة وزيادة الاعتماد على الواردات.

 

غياب الرؤية واحتكار القرار

وفي حين يؤكد حسام هيبة، الرئيس التنفيذي للهيئة العامة للاستثمار، أن الهيئة تعمل على "مبادرة جديدة" لدعم الشركات الناشئة وتمكينها من الوصول إلى الأسواق الخارجية، يرى مراقبون أن هذه التصريحات لا تتجاوز حدود الدعاية السياسية، خصوصًا أن الواقع يشير إلى تضييق متزايد على المستثمرين المستقلين وإلى مركزية مفرطة في اتخاذ القرار الاقتصادي.

وفي الختام يظهر من مجمل المعطيات أن قطاع ريادة الأعمال في مصر يواجه أزمة بنيوية تتجاوز مسألة التمويل إلى غياب بيئة سياسية واقتصادية داعمة للابتكار. الفجوة التمويلية البالغة ملياري دولار ليست سوى نتيجة مباشرة لسياسات احتكارية، وغياب الشفافية، وضعف الحوافز الحقيقية للمستثمرين.

ومع استمرار حكومة مدبولي في إطلاق وعود لا تجد طريقها للتنفيذ، يبقى مستقبل الشركات الناشئة والمصانع المتعثرة رهينًا بإرادة سياسية حقيقية تعيد الثقة للسوق، وتُعيد الاعتبار لدور القطاع الخاص كقوة دافعة للنمو وليس مجرد تابع لسلطة بيروقراطية مغلقة.