لم تعد أزمة الدواء في مصر مجرد مشكلة عابرة أو أزمة نقص مؤقتة، بل تحولت إلى كارثة يومية يعيشها ملايين المرضى. في ظل غياب الدولة وأجهزتها الرقابية عن متابعة السوق، تمددت السوق السوداء للأدوية بشكل غير مسبوق، حتى وصلت بعض الأصناف التي كان سعرها في حدود 900 جنيه إلى ما يزيد عن 6000 جنيه. هذا الانفلات يعكس فراغاً رقابياً خطيراً سمح للشركات والمندوبين والصيدليات باستغلال حاجة المرضى لتحقيق أرباح خيالية، في واحدة من أبشع صور الاتجار بصحة الإنسان.
غياب استراتيجية واضحة لتسعير الدواء وضمان توافر المواد الخام، بجانب تقلبات سعر الدولار، فتح الباب أمام سلسلة متشابكة من تحميل الأعباء تبدأ من الشركات ولا تنتهي عند المريض البسيط. وبينما يستمر الجدل حول المسؤولية، يدفع المواطن حياته ثمناً في مواجهة سوق متوحش لا يعرف سوى لغة الربح.
السوق السوداء وتمددها
الأدوية التي كان يفترض أن تكون متاحة في الصيدليات بأسعار محددة مسبقاً، تحولت إلى سلعة نادرة لا تُشترى إلا عبر وسطاء، أو بما يُعرف في الشارع بـ"سوق الشنطة". المريض الذي يفتش في أكثر من عشر صيدليات بحثاً عن دواء للضغط أو القلب أو السرطان، يجد نفسه في النهاية مضطراً لشراء الدواء من وسيط بسعر مضاعف عدة مرات.
أصناف كانت تباع قبل أشهر بـ 900 جنيه فقط، وصلت أسعارها حالياً إلى 6 آلاف جنيه. هذا الفارق الخرافي لا يعكس زيادة حقيقية في تكلفة الإنتاج، بقدر ما يكشف عن استغلال فج لحاجة المرضى. السوق السوداء صارت البديل الوحيد أمام المواطن، بينما الجهات الرسمية غائبة عن طرح منافذ آمنة تلبي احتياجات الناس. النتيجة أن المرضى أصبحوا تحت رحمة المضاربين، بلا حماية ولا بدائل.
https://x.com/i/status/1966832324164628585
سلسلة تحميل التكاليف
لفهم هذه القفزة الجنونية في الأسعار، لا بد من تتبع سلسلة توزيع الدواء. في البداية، الشركات المنتجة أو المستوردة تبرر الزيادة بنقص المواد الخام وارتفاع سعر الدولار. بعد ذلك، يقوم المندوبون بتحميل الصيادلة زيادات إضافية مقابل توفير الدواء، خصوصاً في ظل شُح المعروض. الصيدلي بدوره يضاعف السعر على المريض، ليس فقط لتعويض التكلفة، بل أيضاً للاستفادة من الأزمة.
هكذا يتحول الدواء من سلعة أساسية مرتبطة بحياة الناس إلى سلعة مضاربة. المريض يحمل الصيدلي، والصيدلي يحمل المندوب، والمندوب يحمل الشركة، والشركة تلقي باللوم على الدولار ونقص المواد الخام. في النهاية، الحلقة الأضعف – أي المواطن – هو من يدفع الثمن مضاعفاً. هذه السلسلة تكشف أن الأزمة ليست طبيعية بل مصطنعة، نتاج سوء إدارة وغياب رقابة صارمة على كل حلقة من حلقات السوق.
دور الصيدليات والمندوبين
لا يمكن إنكار أن بعض الصيادلة وجدوا أنفسهم محاصرين بارتفاع التكلفة وقلة المعروض، لكن كثيرين منهم استغلوا الموقف عبر تخزين الأدوية وطرحها لاحقاً بأسعار مضاعفة. بعض الصيدليات الصغيرة تحولت إلى "سماسرة دواء"، تبحث عن أكبر ربح ممكن حتى لو على حساب حياة المريض.
أما المندوبون، فقد صاروا الحلقة الأخطر في السلسلة. بعضهم يتعمد خلق ندرة مصطنعة عبر حجب الدواء عن السوق لفترات، ثم إعادة توزيعه بأسعار مرتفعة. هذا الدور الوسيط غير الخاضع للرقابة جعل المندوبين يتحكمون في سوق الدواء بشكل لم يسبق له مثيل. ومع غياب الرقابة الفعالة، تحولت الصيدليات والمندوبون إلى تجار أزمة، يرفعون الأسعار بلا رادع ولا محاسبة.
المسؤولية الحكومية
جوهر الأزمة يكمن في غياب وزارة الصحة والجهات الرقابية عن القيام بدورها. تسعير الدواء في مصر يخضع لنظام صارم على الورق، لكنه ينهار على أرض الواقع مع أول نقص في المعروض. لا توجد آلية واضحة لإجبار الشركات على توفير الأدوية الأساسية، ولا يوجد رصد شفاف للمخزون أو مسار التوزيع.
الاعتماد شبه الكامل على الاستيراد يزيد الطين بلة، فكل ارتفاع في الدولار يترجم إلى قفزة جديدة في أسعار الأدوية. لكن المشكلة أن الدولة لا تتدخل لتخفيف هذا الأثر أو لدعم التصنيع المحلي بشكل فعال. وهكذا، يظل السوق مكشوفاً أمام جشع الشركات والمضاربين. وفي الوقت الذي يعاني فيه المواطن من الارتفاع الجنوني للأسعار، تكتفي الحكومة بالتصريحات عن "خطط إصلاح" لا يرى الناس منها شيئاً على أرض الواقع.
الأثر على المريض والمجتمع
أزمة السوق السوداء للأدوية ليست قدراً محتوماً، بل انعكاس لفشل هيكلي في إدارة المنظومة. غياب الرقابة، الاعتماد على الاستيراد، وتراخي السياسات الحكومية في دعم الإنتاج المحلي، كلها عوامل صنعت بيئة مثالية للاتجار بصحة المصريين. ما لم يتم فرض رقابة صارمة على مسار الدواء من الشركة إلى المريض، وتشجيع التصنيع المحلي لتقليل الاعتماد على الدولار والمواد الخام المستوردة، ستظل الأزمة تتكرر وتتصاعد.
إن علاج المرضى لا يمكن أن يظل مرهوناً بالمضاربين والسماسرة. الدولة مطالبة اليوم قبل الغد بإنقاذ حياة مواطنيها، عبر تدخل جاد يضع صحة الناس فوق أرباح الشركات والمندوبين. بدون ذلك، ستظل السوق السوداء هي الحاكم الفعلي لسوق الدواء في مصر، وسيظل المواطن يدفع حياته ثمناً لفوضى لا تنتهي.