لم يعد المولد النبوي الشريف مناسبةً للفرح كما اعتاد المصريون عبر أجيال، بل تحول إلى مرآة تعكس فشل السياسات الحكومية في مواجهة التضخم وغلاء الأسعار.
انتهت الاحتفالات هذا العام، وبقيت "حلوى المولد" مكدّسة على الأرفف، بعدما باتت بعيدة المنال عن ملايين الأسر. وبينما تكتفي الحكومة بعرض صور رسمية لمعارض "مدعومة"، يتجرع المواطن مرارة العجز عن شراء حلوى كانت يومًا رمزًا للفرح العائلي وذاكرة جمعية متجذّرة.
 

أسعار فلكية تذبح التراث
الأسعار هذا العام لم تترك مجالًا للفرحة. العبوات الصغيرة تراوحت بين 300 و500 جنيه، والمتوسطة وصلت إلى 1500 جنيه، أما العبوات المزودة بالمكسرات فقد لامست 4500 جنيه.
السبب الرئيسي هو القفزة الجنونية في أسعار المكسرات المستوردة، التي تجاوزت 850 جنيهًا للكيلو.

وبدلًا من معالجة أزمة الدولار أو دعم الإنتاج المحلي، تُرك المواطن يواجه خيارات مُرّة: إما شراء بضع قطع من السمسمية والحمصية، أو حرمان الأطفال من بهجة المناسبة.

هكذا أفرغ الغلاء المناسبة الدينية من مضمونها، وأصبحت الحلوى رفاهية لا يقدر عليها إلا القلة.
 

معارض شكلية وأجواء باهتة
في سوق "باب البحر" -القلب التاريخي لصناعة الحلوى- كان المشهد صادمًا: تقلصت معارض الحلوى، بينما تمددت معارض السلع التموينية والسجائر الرخيصة.
السبب، كما يؤكد التجار، هو الرسوم الباهظة والإتاوات التي تفرضها السلطات، ما جعل إقامة المعارض مغامرة خاسرة. الحكومة التي تتفاخر بالمعارض "المدعومة" لم تفعل سوى نقل الأزمة من مكان إلى آخر، فيما ظل الركود مسيطرًا.

النتيجة أن الأسواق بدت خاوية من أجواء البهجة التي طالما ميّزت المولد النبوي.
 

صناعة عريقة تحت الحصار
المصانع التاريخية في طنطا والدلتا، التي ورثت المهنة جيلًا بعد جيل، تصارع اليوم للبقاء.
ارتفاع أسعار السكر والسمن والدقيق والطاقة والنقل، بالإضافة إلى الضرائب والرسوم، رفع تكلفة الإنتاج بنسبة لا تقل عن 30%.

بعض المصانع لجأت إلى استبدال المكسرات بالفول السوداني والحمص لتقليل الكلفة، فيما اجتاحت السوق منتجات مغشوشة أو رديئة تُباع في معارض برعاية رسمية.

الحكومة، هنا أيضًا، لم تحمِ الصناعة الوطنية ولا سمعتها، بل تركت التراث يواجه منافسة غير شريفة وركودًا قاتلًا.
 

حلول ترقيعية لا تكفي
طرحت وزارة التموين أطنانًا من الحلوى عبر منافذها بتخفيضات تصل إلى 30%، لكن هذه التخفيضات بدت أشبه بذرّ الرماد في العيون.
فالأزمة أعمق من بضعة معارض مدعومة؛ إنها أزمة مرتبطة بالسياسات الاقتصادية الكارثية التي أطاحت بالقوة الشرائية للمواطنين.

كما يقول الخبير الاقتصادي رشاد عبده، فإن المناسبات الدينية والوطنية يمكن أن تكون رافعة للاقتصاد وتنشيط الأسواق، لكن الحكومة أهدرت هذه الفرصة بترك التضخم يلتهم دخول الناس، وتحويل "حلوى المولد" من تقليد شعبي إلى حلم بعيد المنال.
 

الخاتمة: من بهجة جماعية إلى مرارة جماعية
لم تعد المشكلة في ارتفاع سعر قطعة حلوى أو علبة مكسرات، بل في فقدان المصريين لحقهم البسيط في الاحتفال بمناسباتهم الدينية دون إذلال اقتصادي.
الحكومة التي ترفع شعارات "تخفيف الأعباء" هي نفسها التي صنعت الغلاء بسياساتها الفاشلة، وحرمت ملايين الأسر من أبسط طقوس الفرح.

وهكذا، بدلاً من أن يكون المولد النبوي مناسبة للبهجة والروح الجماعية، صار شاهدًا على قسوة الغلاء، و"حلوى المولد" تحولت من رمز للكرم والتراث إلى عنوان لسياسات حكومية تُمعن في تجويع الشعب وتجريده من فرحته.