أعلنت تقارير محلية منتصف يوليو 2025 عن استحواذ شركة إماراتية، يُعتقد أنها مرتبطة بصندوق أبوظبي السيادي، على أكثر من 40 ألف فدان من أراضي وادي النطرون بمحافظة البحيرة. وتأتي هذه الخطوة ضمن سلسلة من عمليات شراء الأراضي الزراعية في مصر من قبل كيانات إماراتية، تُركز بشكل خاص على زراعة القمح والمحاصيل الإستراتيجية.

صفقة وادي النطرون، التي لم تُعلن تفاصيلها الكاملة للرأي العام، تمّت وفقاً لمراقبين بتيسير مباشر من الهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية، وبأسعار أقل كثيراً من قيمتها الحقيقية في السوق، ما أثار مخاوف خبراء الاقتصاد والزراعة بشأن مستقبل الأمن الغذائي المصري.

بدأت الإمارات، ممثلة في شركة الظاهرة الزراعية، توسعها في زراعة القمح في مصر منذ عام 2014، مستحوذة على مساحات شاسعة من الأراضي المصرية تصل إلى نحو 500 ألف فدان بين توشكى وشرق العوينات والصالحية شمال شرق الدلتا.

تقوم الشركة بزراعة القمح في هذه الأراضي وتوريده لحكومة الانقلاب المصرية بأسعار مرتفعة، مما أدى إلى زيادة مادية على فاتورة الغذاء التي يتحملها المواطن الفقير.

أبرز الأمثلة على ذلك هو توسع الشركة في أراضي وادي النطرون، التي شكلت حديثًا جديدًا عن استحواذ إقليمي يجعل الأمن الغذائي المصري رهينًا لمصالح أجنبية.

هذا الوضع يعكس أزمة حقيقية لهيمنة إماراتية على جانب كبير من الإنتاج الزراعي المصري، خاصة محاصيل القمح الاستراتيجية.

 

استخدام اتفاقات قمح الدمج بين الأراضي المزروعة والاستيراد: تكريس اعتماد مصر على الخارج

اتفاقية تمويل بقيمة 500 مليون دولار بين مصر والإمارات، موقعة عام 2023، تعتمد على شراء القمح سواء من الأراضي المزروعة في مصر تحت إدارة الشركات الإماراتية أو استيراده بأسعار مرتفعة عبر مناقصات دولية مدعومة ماليًا من صندوق أبو ظبي للتنمية.

هذه الاتفاقية لم تبدأ العمل الفعلي بها إلا من يناير 2024، لكنها أثارت جدلًا واسعًا بسبب وضع الموارد الزراعية المصرية في يد شركة إماراتية.

وأكد وزير التموين المصري ضرورة التصديق البرلماني على الاتفاقية، لكن رغم ذلك فقد أثارت مخاوف كبيرة بخصوص زيادة أعباء التمويل وصعوبة تأمين احتياجات الغذاء الوطني في ظل هذا التبعية للجهات الأجنبية.

 

انكماش الدور الزراعي المصري..

رغم الدعاية الرسمية لمشروع "توشكى الخير"، فإن جزءًا كبيرًا من أراضي المشروع انتهى إلى شركات إماراتية مثل "الظاهرة القابضة"، التي بدأت نشاطها في مصر منذ 2018.

الشركة تُنتج آلاف الأطنان من القمح سنويًا، لكن جزءًا كبيرًا منه يُصدّر، ولا يخضع لرقابة أو أولوية تزويد السوق المصري.

المهندس الزراعي محسن النويشي، الذي عمل سابقًا في وزارة الزراعة، علّق في حديث لإحدى الصحف الاقتصادية: "نحن أمام حالة انسحاب الدولة من ملف الغذاء، وهذا أخطر من انسحابها من قطاعات أخرى. الغذاء مسألة سيادة."

 

أزمة الاقتصاد المصري تحت حكم السيسي

منذ انقلاب عبد الفتاح السيسي في 2013 بعد الإطاحة بالرئيس المدني محمد مرسي، شهد الاقتصاد المصري تراجعًا حادًا في معظم المؤشرات الاقتصادية، مع زيادة معدلات التضخم لتصل إلى نحو 40٪ في بعض الفترات، خصوصًا في أسعار الغذاء الأساسية التي تعد رغيف الخبز أحد أهمها؟

الخبير الاقتصادي مصطفى عبد السلام وصف الوضع الاقتصادي في السنوات الأولى بأنه شهد "انفلاتا في أسعار السلع، خاصة الغذائية، وأزمة توفير الكهرباء، وارتفاع معدلات البطالة إلى أكثر من 25%"، ترافق ذلك مع زيادة الدين المحلي إلى تريليوني جنيه وتفاقم عجز الموازنة للبلاد إلى مستويات قياسية، رغم تلقي منح خليجية.

حذر مصطفى عبد السلام من أن تحكم الشركات الأجنبية في الزراعة المصرية وخصوصًا القمح “يزيد من اعتماد مصر على الخارج ويزيد من التبعية التي تهدد الأمن الغذائي.

وفي تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش وصفت حكم السيسي بالسلطوي مع توسع دور الجيش في الاقتصاد، مستغلا ذلك في كسب مصالح شخصية وعسكرية على حساب الفئات الفقيرة بما فيهم مزارعو القمح المحليون الذين يعانون من انخفاض أسعار الشراء وارتفاع أسعار الفساد والواسطات.

أما وزير التموين فقد أكد أن الاتفاقية مع الإمارات تحد من التكاليف على مصر لكنها “تجعل الحكومة في موقع ضعف” بسبب التبعية لمصادر خارجية، معتمدًا على القمح المزروع في الأراضي الإماراتية داخل مصر.

يبنما مجلس النواب المصري أقر في نهاية 2024 اتفاقية لشراء القمح بقيمة 500 مليون دولار، وسط اتهامات بتواطؤ حكومي في إهدار أموال عامة لصالح شركات أجنبية، رغم إخفاقات شركة الظاهرة في تحقيق الالتزامات الزراعية في الماضي وتم سحب أراضي منها في 2019 بسبب تأخرها في الزراعة.

 

ماذا يعني استيلاء الإمارات على أراضي القمح؟

في النهاية، توسع الشركات الإماراتية في اقتناء الأراضي الزراعية وخاصة في مناطق استراتيجة مثل وادي النطرون، يمثل تهديدًا مباشرًا لسيادة مصر في ملف أمنها الغذائي، إذ إن القمح يعد المنتج الاستراتيجي الأهم الذي يعتمد عليه ملايين المصريين في وجبة الخبز اليومية، التي يصفها كثيرون بأنها "رغيف الفقير".

هذا التحكم في الإنتاج الزراعي عبر عقود طويلة الأمد لصالح شركة إماراتية يضع مصر في موقف يتنازل فيه عن حكم سيادتها الاقتصادية، ومصدر غذائها الأساسي، على حساب الاستقلال الوطني ومصالح الفقراء.

في تقرير صدر عن "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" في يونيو 2025، تبيّن أن أكثر من 70% من مشاريع الزراعة الإماراتية لا تخضع لقوانين العمل المصرية، ولا يتم فيها التأمين على العاملين أو تنظيم حقوقهم.

 

أين الدولة؟

منذ تعديل قانون الاستثمار في 2017 وتوسيع صلاحيات هيئة المجتمعات العمرانية وهيئات استثمارية أخرى، تم تمرير عشرات الصفقات لبيع أراضي زراعية واستصلاحها لصالح مستثمرين خليجيين، على رأسهم الإماراتيون.

لم تُعرض هذه العقود على البرلمان، ولم تُجرَ مناقشات علنية حول جدوى هذه التعاقدات أو آثارها على المزارع المصري، وسط اتهامات للحكومة بـ"الخصخصة المقنّعة" للقطاع الزراعي.

وفي أكتوبر 2024، كشف تقرير لمنظمة "الشبكة العربية لحقوق الإنسان" أن نحو 300 ألف فدان من الأراضي الصالحة للزراعة في مناطق مثل شرق العوينات، والفيوم، وتوشكى، انتقلت ملكيتها لصالح شركات مملوكة أو مدعومة من أبوظبي.

التعاقدات مع الإمارات في شراء القمح واستحواذها على الأراضي الزراعية يظهر فشلًا واضحًا في إدارة الموارد الوطنية ما يعرض المصريين لخطر تفاقم أزمات الغذاء والغلاء.

مجموعة من الاقتصاديين والسياسيين يؤكدون أن استسلام مصر لسيطرة كيانات أجنبية على أراضيها الزراعية وخاصة القمح، ما هو إلا استمرار لنهج التبعية الاقتصادية التي تنتهجها السلطة الحاكمة، بدلًا من تعزيز السيادة الوطنية وتأمين رغيف الخبز لأغلب فئات الشعب.