أعلن جهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية في مصر في قرار أثار جدلاً واسعاً موافقته الرسمية على طلب شركة كيو لوجيستيكس القابضة الإماراتية للاستحواذ على نسبة قد تصل إلى 100% من إجمالي أسهم شركة أرامكس، إحدى أكبر شركات الشحن العاملة في مصر والمنطقة.

اتخذ القرار في مارس 2025، بعد أشهر من العروض المالية والمفاوضات، حيث حددت قيمة السهم الواحدة في صفقة الشراء بـ 3 دراهم إماراتية (حوالي 0.82 دولار)، لتصل قيمة أرامكس السوقية إلى حوالي 4.39 مليار درهم إماراتي (قرابة 1.2 مليار دولار).

جاءت هذه الموافقة تزامناً مع رفع أبو ظبي منسوب نفوذها الاستثماري في القطاع اللوجستي الإقليمي، بدعم وسعي حكومي إماراتي غير مسبوق لتعزيز التحكم في شرايين النقل والخدمات اللوجستية بالمنطقة. هذا القرار الاستثنائي يُعَدّ سابقة في تاريخ صفقات الاستحواذ الأجنبية لمصر منذ 2013.

الشركة المستحوِذة هي تابعة بالكامل لشركة أبو ظبي التنموية القابضة (ADQ)، أحد أكبر الصناديق السيادية بالإمارات، في حين أن "أرامكس" نفسها هي إحدى شركات محفظة ADQ، ما يعني أن الصفقة تمت ضمن تحكم مالي إماراتي كامل في سلسلة الشحن والخدمات اللوجستية داخل مصر.

تقدمت كيو لوجيستيكس القابضة بعرضها الرسمي في 13 يناير 2025، وهو تاريخ مفصلي أعقبه تسارع في الأحداث والإجراءات؛ وتم الإعلان عن موافقة جهاز حماية المنافسة يوم 9 فبراير، وتبعها قبول عدد ضخم من المساهمين بالعرض حتى حلول موعد إغلاق التقديم في 24 مارس 2025.

في نهاية الشهر ذاته، أعلنت الشركة تلقيها موافقات تمثل 40.57% من الأسهم، إلى جانب حصة 22.69% كانت تملكها بالفعل مجموعة موانئ أبو ظبي (إحدى شركات محفظة إي دي كيو)، ليرتفع بذلك اجمالي حيازتها إلى 63.26% ويصبح الطريق مفتوحاً للاستحواذ الكامل على أرامكس.

العرض المالي المقدم اعتُبر مغريًا لحكومة الانقلاب حيث زاد بنسبة 33% عن سعر إغلاق سهم أرامكس في اليوم السابق لإعلان الصفقة.

 

حكومة السيسي و"التمليك السيادي".. تفريط أم استثمار؟

رغم محاولات النظام تقديم هذه الخطوة كنوع من تشجيع الاستثمار الأجنبي، يرى كثير من المحللين أن ما يجري هو تفكيك ممنهج لما تبقى من الاقتصاد الوطني، وتسليمه لصناديق خليجية سيادية تعمل وفق أجندات سياسية واقتصادية تخدم مصالحها الإقليمية.

وتأتي الصفقة بعد سلسلة من التفريطات السابقة مثل بيع حصص من فودافون مصر، وطرح أصول شركات الكهرباء والموانئ أمام الإمارات والسعودية، وهو ما دفع المحلل الاقتصادي عبد الخالق فاروق للقول: "ما يجري الآن ليس خصخصة، بل بيع مشبوه يفتقد الشفافية ويهدد الأمن القومي الاقتصادي".

 

لماذا الآن؟ وتوقيت يثير التساؤلات

جاءت موافقة الجهاز المصري في يوليو 2025 وسط أزمة اقتصادية طاحنة تمر بها البلاد، تتضمن عجزًا متفاقمًا في ميزان المدفوعات، وارتفاعًا قياسيًا في الديون الخارجية التي تجاوزت 165 مليار دولار وفقًا لتقارير البنك الدولي.

يرى مراقبون أن النظام يلجأ لبيع الأصول العامة من أجل توفير السيولة النقدية قصيرة الأجل وسد العجز دون معالجة حقيقية لجذور الأزمة.

في هذا السياق، علّق الخبير الاقتصادي ممدوح الولي قائلًا: "السلطة تبحث عن المال بأي ثمن، ولو ببيع مفاصل الدولة".

 

أين الحكومة من حماية السوق المحلي؟

يتساءل مراقبون؛ أين دور الدولة الحقيقي في حماية السوق المصري من هيمنة المستثمر الأجنبي؟ فشركة "أرامكس" ليست مجرد شركة شحن، بل هي فاعل أساسي في قطاع الخدمات اللوجستية الذي ترتبط به حركة التجارة الداخلية والخارجية، وتتحكم في بنية النقل والتوزيع وخدمة العملاء في قطاعات واسعة.

ومن خلال هذا الاستحواذ، تُمنح الإمارات موطئ قدم قويًا داخل قطاع حيوي يمثل عصب التجارة والخدمات الرقمية والبنية التحتية، دون وجود شروط واضحة لحماية العاملين المصريين أو ضمان التوازن في السوق.

 

خلفيات الشركة الإماراتية.. تحكم وتمدد

شركة "كيو لوجيستيكس" التي نفذت الصفقة، ليست مجرد مستثمر عابر، بل هي أداة توسع اقتصادي بيد الدولة الإماراتية، عبر صندوق ADQ الصندوق يمتلك حصصًا مؤثرة في عشرات الشركات المصرية منذ 2022 بعد ضخ استثمارات بقيمة نحو 10 مليارات دولار في قطاعات حساسة منها الطاقة، والاتصالات، والموانئ.

ويُنظر إلى هذا التوسع على أنه جزء من سياسة "التمكين الاقتصادي الصامت" التي تمارسها أبو ظبي في ظل ضعف القرار السيادي المصري وتحول النظام إلى أداة تمرير لمصالح الحلفاء الخليجيين.

 

إلى أين يتجه الاقتصاد المصري؟

في ظل تفريط متسارع في الأصول الوطنية، وتساهل حكومي واضح مع الاستحواذات الأجنبية، يصبح من المشروع التساؤل عن مصير الاقتصاد الوطني وأمنه الاستراتيجي، وبدلًا من الاستثمار في شركات وطنية وتقوية السوق المحلي، يبدو أن حكومة السيسي باتت تفضل بيع ما تبقى من أصول البلاد مقابل قروض أو دعم مؤقت، يقول النائب السابق هيثم الحريري: "ما يجري الآن أكبر من مجرد استثمارات.. إنه إعادة هيكلة قسرية للاقتصاد لصالح قوى خارجية برعاية انقلابية داخلية". وبينما تستمر تلك السياسات، يبقى المواطن المصري وحده من يدفع الثمن في صورة بطالة، وغلاء، وتبعية اقتصادية مطلقة.