لأكثر من عشر سنوات ظل الانقلابي خليفة حفتر، القائد العسكري المسيطر على شرق ليبيا وجنوبها، رقماً صعباً في المعادلة الليبية رغم حرمانه من الاعتراف الدولي، ووقوف المجتمع الدولي خلف حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس.
لكنه ومنذ بداية 2023، بدأ بتطبيق استراتيجية جديدة طموحة يسعى من خلالها إلى كسر طوق العزلة الدولية عنه، وفرض نفسه كلاعب إقليمي ودولي لا يمكن تجاوزه.
تقوم استراتيجية حفتر على ثلاث ركائز رئيسية:
- تصدير أبنائه كلاعبين سياسيين وعسكريين في المشهد الإقليمي والدولي
- والتحالف مع قوى عسكرية مؤثرة مثل روسيا ومصر وتركيا
- والترويج لخطاب اقتصادي استثماري جاذب لرؤوس الأموال الأجنبية.
هذا التحرك يأتي بعد فشل محاولاته العسكرية في السيطرة على طرابلس، وانكماش نفوذه الإقليمي، وتدهور اقتصادات المناطق الخاضعة لسيطرته، ما فرض عليه تغييراً في التكتيك دون التخلي عن السلاح كأداة رئيسية للنفوذ.
أبناء حفتر.. أذرع التمكين العائلي
على رأس هذه الاستراتيجية الجديدة يظهر أبناؤه الثلاثة: صدام، وخالد، وبلقاسم.
صدام، الذي يترأس القوات البرية، بات الواجهة العسكرية والدبلوماسية الأبرز، حيث رافق والده في زيارات رسمية لمينسك وموسكو والقاهرة، كما أجرى زيارات منفردة إلى أنقرة وواشنطن وباريس وروما، وهو ما يعد تحركاً غير مسبوق لابن قائد عسكري غير معترف به دولياً، ويعكس تغيراً في طريقة تعامل العواصم المؤثرة مع الواقع الليبي المفروض بقوة السلاح شرق البلاد.
أما خالد، الذي يتولى قيادة الأركان الأمنية، فدوره يتركز على تأمين الحاضنة الداخلية لمشاريع حفتر الاستثمارية والعسكرية، من خلال قوات أمنية منتشرة في معظم مناطق الشرق والجنوب.
في حين يبرز بلقاسم حفتر كواجهة اقتصادية تُروج لمشاريع ضخمة، تتضمن اتفاقات بناء مع شركات تركية ومصرية، وسعي لخلق تحالفات اقتصادية مع دول مثل الصين، وهو ما كشفته تقارير حديثة عن مفاوضات متقدمة تشمل مشاريع عملاقة كمصفاة نفط وميناء وسكة حديد تربط ليبيا بمصر، بتمويل صيني وتعاون مع شركة هواوي.
محاور التحالف: موسكو، أنقرة، القاهرة... وبكين بصمت
زيارات حفتر وأبنائه إلى مينسك وموسكو تؤكد رغبته في توثيق تحالفه العسكري مع روسيا، خاصة عبر بوابة بيلاروسيا، الحليف الوثيق لموسكو.
كما حملت زيارته للقاهرة مضموناً سياسياً واقتصادياً واضحاً، يتصل بالتنسيق حول الحدود والتوقيع على اتفاقيات إعادة إعمار بمليارات الدولارات.
لكن الجديد والمثير للقلق كان دخول الصين على الخط، عبر مفاوضات غير معلنة، كشفتها وسائل إعلام صينية، حول رزمة استثمارات ضخمة في شرق ليبيا، وهو ما اعتبره محللون خطوة محفوفة بالمخاطر، قد تفجر صراع مصالح إقليمي ودولي داخل الأراضي الليبية.
تركيا بدورها، التي طالما دعمت حكومة طرابلس، أصبحت هدفاً لتحركات صدام حفتر، الذي زار أنقرة وحظي باستقبال رسمي، ما يفتح الباب أمام تحول في المواقف أو محاولة من حفتر لشراء دعم تركي مقابل تمرير اتفاقات حدودية أو مصالح مشتركة.
تحذيرات من الانفجار.. لعبة التوازنات الخطرة
أستاذ العلاقات الدولية موسى احباره يرى أن حفتر لم يتخلّ عن جوهر قوته وهو السلاح، مشيراً إلى أن تحركات صدام تحمل ثقلاً دبلوماسياً مدعوماً بقوة عسكرية على الأرض.
ويؤكد أن تحالفات حفتر تهدف لتحدي احتكار الأمم المتحدة للعملية السياسية، وفرض شرعية بديلة عن حكومة طرابلس المعترف بها دولياً، عبر الواقع السياسي والاقتصادي الذي يبنيه من خلال هذه الاستراتيجية.
لكن هذه التحركات لا تخلو من مخاطر جمة، كما يحذر أستاذ العلوم السياسية حسن عبد المولى، الذي يرى أن فتح حفتر لقنوات متعددة مع قوى متناقضة مثل روسيا والصين وتركيا والغرب، قد يحول ليبيا إلى ساحة صراع إقليمي ودولي، خاصة إذا ما تكررت الاتصالات غير المعلنة، مثل تلك التي جرت مع بكين، دون تنسيق أو إعلان رسمي.
ويضيف أن حفتر يبدو وكأنه يغامر بإغضاب واشنطن والعواصم الأوروبية، التي قد تلجأ لفرض عقوبات اقتصادية على المناطق الواقعة تحت سيطرته.
عبد المولى حذر أيضاً من تعارض مصالح القوى المتحالفة مع حفتر، فروسيا لن تقبل بسهولة بوجود تركي في ذات الحيز الجغرافي، كما أن مصر تنظر بقلق لأي تموضع صيني جديد قد يهدد نفوذها على حدودها الغربية.
وأضاف أن الاعتماد الكبير على الأبناء في تسيير الملفات العسكرية والاقتصادية قد يخلق صراعات داخلية محتملة بينهم مستقبلاً، في ظل غياب أطر مؤسسية واضحة داخل النظام الذي يقيمه حفتر.
من الفشل العسكري إلى شرعية الأمر الواقع
بعد فشل حفتر في اقتحام طرابلس بالقوة، وانكشاف هشاشة تحالفاته القبلية والداخلية، لجأ إلى "الهروب إلى الأمام" عبر استراتيجية تصدير الأبناء وبناء تحالفات دولية على أسس اقتصادية وأمنية، تحاكي فكرة بناء "شرعية الأمر الواقع".
لكن هذه الشرعية تبقى غير مستقرة، لأنها تقوم على توازنات دولية معقدة، وتحالفات متناقضة المصالح، ما يجعلها عرضة للانهيار في أي لحظة.