في سابقة لم تحدث منذ أكثر من ستة أشهر، تراجع سعر صرف الدولار في البنوك المصرية إلى ما دون حاجز الـ50 جنيهاً، مسجلاً 49.98 جنيه للشراء و50 جنيهاً للبيع، ما فتح أبواب الجدل واسعًا حول الأسباب الحقيقية لهذا التراجع، في وقت تتزامن فيه هذه التطورات مع وجود بعثة صندوق النقد الدولي بالقاهرة لإجراء المراجعة الخامسة لبرنامج قرض الـ8 مليارات دولار.

الهبوط المفاجئ لسعر الدولار - الذي جاء بعد أسابيع من استقرار نسبي حول مستوى 50.5 جنيه - ترافق مع تصريحات رسمية من الحكومة تؤكد التزامها بسياسة سعر صرف "مرن"، فيما يراه مراقبون نوعاً من التمهيد لتمرير المراجعة الصعبة عبر إجراءات توحي بوجود استقرار نقدي دون إصلاح هيكلي حقيقي.
 

الهبوط الإداري لسعر الدولار
   
يرى الخبير الاقتصادي الدكتور عبدالنبي عبد المطلب، أن التغيرات في سعر الدولار لا تعكس واقعاً اقتصادياً حقيقياً، بل ترتبط بإجراءات إدارية، ويقول: "الهبوط لا يمثل انخفاضاً فعلياً ذا قيمة، وهو مجرد تحريك إداري مؤقت للسعر وليس نتيجة آليات سوق حقيقية".

وأشار إلى أن "توحيد السعر في مختلف البنوك بشكل مريب، وغياب فروق حتى في حدود القرش الواحد، يكشف عن إدارة مركزية للسعر وليس تركه للعوامل الطبيعية من عرض وطلب، ما يعزز فرضية التوجيه الرسمي للسوق خلال فترة وجود بعثة صندوق النقد".
 

رسائل داخلية وخارجية
   يتوقع عبد المطلب أن الحكومة أرادت توجيه رسائل عدة من هذا التحرك: داخلياً لحائزي الدولار لتخفيف الضغط على السوق وتقليل توقعات تخفيض جديد للجنيه، وخارجياً لبعثة الصندوق لتأكيد نجاحها في كبح جماح سعر الصرف، مدفوعة بزيادة في تحويلات المصريين بالخارج التي سجلت قفزة إلى 32.6 مليار دولار خلال 11 شهراً.

لكن الخبير الاقتصادي يحذر من أن هذا التحرك المؤقت قد يعقبه "تعويم مدار أو جزئي"، كما حدث في تعويمات سابقة، خاصة أن هناك إشارات من السوق لحالة ارتباك وترقب بين المدخرين والمتعاملين تحسباً لتحركات مفاجئة.
 

مخاوف من مراجعة قاسية
   تُعد المراجعة الخامسة للصندوق الأشد صعوبة منذ توقيع الاتفاق الأخير، خصوصًا مع تراجع تنفيذ بعض الشروط، مثل تخارج الدولة من الأصول، والتي تم استبدالها جزئياً بصفقات تأجير موانئ أو بيع أراضٍ كما جرى في صفقة رأس الحكمة.

ويؤكد عبد المطلب أن تمرير المراجعة الرابعة لم يكن ممكناً لولا تدفق أموال صفقة رأس الحكمة في فبراير الماضي، مضيفاً أن "الحكومة قد تضطر إلى صفقات جديدة أو بيع أصول سيادية خلال الأشهر المقبلة لتمرير المراجعة الخامسة".

وتسعى الحكومة للحصول على شريحة جديدة بقيمة 1.3 مليار دولار، بعد أن حصلت على 3.2 مليار دولار حتى الآن، لكنها مطالبة في الوقت ذاته بسداد نحو 1.7 مليار دولار للصندوق خلال شهري مايو ويونيو، وهو ما يضع ضغطاً مضاعفاً على موقفها التفاوضي.
 

أزمات اقتصادية وضغوط سياسية
   المخاوف لا تقتصر على الجبهة الاقتصادية فقط. فالوضع السياسي الإقليمي المعقد، خاصة في ظل التوترات مع إسرائيل بملف الغاز، وضغوط أمريكية في ملف تهجير الفلسطينيين، والتراجع الحاد لإيرادات قناة السويس بنسبة 61% خلال العام الجاري، كلها عوامل تزيد من حاجة الحكومة لأي مصادر تمويل سريع، بما في ذلك اللجوء إلى الخصخصة أو رفع الدعم.

وسجلت مصر خلال 2023 أكبر قفزة في نشاط الدمج والاستحواذ بالمنطقة، بإجمالي 120 صفقة، مما يؤكد توجه الدولة لبيع الأصول كأداة لسد العجز وتمرير اشتراطات الصندوق.
 

انعدام الشفافية وتخوف شعبي
   أجواء الغموض التي تحيط بالمفاوضات مع صندوق النقد فاقمت من مخاوف المصريين، خصوصاً مع كشف "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" عن طلب الحكومة عدم نشر وثائق المراجعة الرابعة، ما يفتح الباب لتكهنات حول وجود شروط سرية أو مجحفة تم تمريرها دون علم الرأي العام.

وبحسب المبادرة، فإن غياب الشفافية يهدد ثقة المواطنين في السياسة الاقتصادية، خصوصاً بعد قرارات متتالية بتعويم الجنيه أو خفض الدعم دون مقدمات كافية، وهو ما حصل في تعويمات 2016، 2022، وأخيراً في مارس 2024، حيث انخفضت قيمة الجنيه من 7 إلى 50 جنيهاً خلال 8 سنوات فقط.
 

تحذيرات من تعويم جديد
   حالة الترقب تمتد إلى قطاعات الأعمال، خاصة العقارات، حيث أكد أحد المطورين العقاريين في العاصمة الإدارية أن "أي تحرك جديد في سعر الصرف سيعيد خلط الأوراق، ويؤثر مباشرة على التسعير والتمويل"، مضيفاً أنهم مضطرون للاحتفاظ برصيد دولاري دائم تحسباً لتقلبات عنيفة.

ويخشى العاملون في السوق من تكرار ما جرى العام الماضي حين انهارت السوق السوداء بعد قرارات تعويم مفاجئة، أدت لخسائر كبيرة للمودعين.

وارتفع الدين العام المصري إلى 13.3 تريليون جنيه بنهاية 2024، بينما بلغ الدين الخارجي 155.3 مليار دولار، بحسب وزارة التخطيط، ما يشكل عبئاً ضخماً على الاقتصاد وقدرة الدولة على سداد التزاماتها.