لا زالت أجهزة محافظة القاهرة تهدم المقابر التاريخية بمنطقة الإمام الشافعي تحت حماية الأمن، الذي منع التصوير وحرم الباحثين من زيارة المنطقة أثناء هدم المقابر الأثرية.
تتواصل عمليات الهدم بوتيرة متسارعة، وسط تواجد أمني مكثف يمنع التوثيق، ما يثير موجة من الغضب والقلق بين الباحثين في التراث والمجتمع المدني، خاصة في ظل غياب أي توضيحات رسمية حول مصير هذه المعالم التاريخية.
تدمير شواهد الماضي في جنح الظلام
باحثون في التراث والآثار وحارس إحدى المقابر قالوا إن موجة الهدم الحالية بدأت يوم 6 فبراير الماضي، حيث تتم أعمال الهدم غالبًا بعد منتصف الليل، وبحلول النهار، تقوم الشاحنات بنقل الركام بعيدًا عن الأنظار.
وفقًا لمصادر مطلعة، فإن هذه العمليات أثرت على مواقع ذات أهمية كبيرة، منها مقبرة زهرة فاضل، ابنة مصطفى فاضل ابن إبراهيم باشا ابن محمد علي، ومقبرة إبراهيم أدهم الدمرداش، حفيد عبد الرحيم الدمرداش، الذي وهب أرضه لمستشفى الدمرداش.
كما شملت عمليات الإزالة مقبرة علي مير رضا يكن، شقيق أمينة زوجة محمد علي، التي كانت تُعد من أجمل المدافن من حيث الزخرفة والفن المعماري.
باحث آخر أكد أن موجة الهدم الحالية تسير بوتيرة أسرع من الموجات السابقة، حيث بدأت بهدم مقبرة الشاعر محمود سامي البارودي، أحد رموز الوطنية المصرية، ثم مقبرة ومدفن محمد زكي أبو شادي.
قمع الباحثين وتكثيف الرقابة الأمنية
في إطار الإجراءات الأمنية المشددة، أوقفت قوات الأمن الباحث مصطفى الصادق، مؤلف كتاب "كنوز مقابر مصر"، والباحث إبراهيم طايع، مؤسس مجموعة "جبانات مصر"، وقامت بمسح جميع الصور والفيديوهات المتعلقة بالمقابر من هواتفهما، مع تحذيرهما من التواجد في المنطقة مجددًا.
لغة البلدوزر
في 11 مارس الماضي، هدم البلدوزر قبة كلزار وحسين، التي يعود تاريخها لعام 1849، والتي كانت تحتوي على شواهد وزخارف فنية نادرة.
كما تم هدم مدرسة رابعة العدوية، وهي جزء من مقبرة البرنس يوسف كمال، وسط توقعات بإزالتها بالكامل في أي لحظة.
كذلك، تمت إزالة السقف الخشبي للحوش الذي يضم مقبرة الإمام ورش، مما يعني أنها قد تهدم قريبًا.
أعمال الهدم تتركز حاليًا في شارعي ابن الفارض والطحاوية بقلب منطقة الإمام الشافعي، حيث يضم هذان الشارعان عددًا كبيرًا من المقابر التاريخية التي تمثل جزءًا من الذاكرة المصرية.
وعد مدبولي!
في أكتوبر 2024، أقدمت محافظة القاهرة على هدم مدفن أثري لـ"نام شاز قادين"، مستولدة محمد علي باشا وأم أولاده، مما أثار موجة غضب شعبية عارمة.
اضطر رئيس الوزراء مصطفى مدبولي حينها إلى الاعتراف بحدوث "مشكلة"، وأعلن عن وقف فوري لأعمال الهدم، متعهدًا بعدم المساس بأي مبنى ذو قيمة تاريخية.
كما صرح وزير الثقافة أحمد فؤاد هنو عن وقف الهدم مؤقتًا لحين دراسة أوضاع الأضرحة والمدافن المستهدفة بالإزالة، ووعد بإعادة النظر في مسار المشروع الجاري تنفيذه.
لكنه لم ينفذ وعده، وعادت الجرافات لتمحو التراث، مع منع التصوير كيلا يرى المصريون حجم الكارثة.
رغم أن الوزير تحدث عن نقل الآثار بطريقة علمية عبر وزارة السياحة والآثار، إلا أن هذه التصريحات لم تترجم إلى أي إجراءات فعلية، وظلت الحكومة تفضل أسهل الحلول: هدم القرافة التاريخية وتسويتها بالأرض بدلاً من بذل أي مجهود للحفاظ عليها.
بين تجاهل المتخصصين وسخط المصريين
لم تكتفِ الحكومة بتجاهل المتخصصين وعدم الاستعانة بهم للحفاظ على شواهد المدافن واللافتات والنقوش الأثرية، بل تجاهلت أيضًا الرأي العام المصري الرافض لتدمير تراثه وهويته.
تعد القرافة أقدم تاريخيًا من مدينة القاهرة نفسها، حيث تأسست مع دفن أول مسلم في مصر عند سفح المقطم في صدر الإسلام، وامتدت على مدار 1400 عام، مما جعلها شاهدة على تحولات عصور مختلفة، وصولًا إلى العصر الحديث.
هذه المنطقة ليست مجرد مقابر، بل تمثل تاريخًا حيًا لواحدة من أقدم مدن العالم.
لكن الخطة الحكومية تستهدف إزالة القرافة لإنشاء محور مروري وبناء مناطق استثمارية، بزعم تحسين "فيو" الأحياء الجديدة ورفع أسعار الأراضي المحيطة.
ورغم اقتراح المتخصصين حلولًا بديلة، مثل إنشاء نفق تحت الأرض لتخفيف الزحام دون المساس بالمدافن، إلا أن الحكومة فضلت الحل السريع والسهل: لغة البلدوزر.