توجّه السياسات الاقتصادية مسار العلاقات الدولية ومستقبلها أيضاً، والأهم أزماتها الذاتية، إذ إن تصعيد التنافسات الاقتصادية بين الفاعلين الدوليين، وتسيس الاقتصاد، يولّدان ارتدادات عديدة، محلياً وعالمياً أيضاً.
وفي هذا السياق، فإن تصعيد الصراع التجاري في الوقت الحالي، وفي ظل الأزمات الاقتصادية الخانقة، يضاعف من حدّة التحدّيات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، فضلاً عن تداعيات تجميد المساعدات الخارجية بشقّيها الإنساني والتنموي، جرّاء تنصل القوى المهيمنة من مسؤوليتها السياسية والأخلاقية في إعانة المجتمعات الفقيرة وتحميلها وحدها كلفة حروبها.

   أعادت السياسات الاقتصادية الأميركية توجيه دفة الصراع الاقتصادي عالمياً، إذ نقلته أخيراً إلى مخاطر تدشين حروب تجارية عالمية مقبلة، ناهيك عن تداعيات إضعاف الأطر القانونية والكيانات التجارية الدولية التي نظّمت العلاقات التجارية بين الدول.
ففي حين بلورت سياساتها الاقتصادية بالتركيز على مصالحها الحيوية، المتضمّنة في المبادئ الموجهة للتيارات الشعبوية، القائمة على زعزعة مرتكزات الليبرالية الاقتصادية من مبادئ حرية السوق وضمان التدفقات التجارية والمالية، فإنها ربطت هذا المسار الإقصائي باستراتيجية تفتيتيةٍ تجرّد الأدوات الاقتصادية من وظيفتها التقليدية في إدارة النشاط الاقتصادي، بإعادة توظيفها في مجالات سياسية وأمنية وجيوسياسية، من خلال تسيس الاقتصاد والتجارة، وتحويلهما إلى أداة عقابية لفرض مصالحها الاقتصادية الأحادية، بما في ذلك الضغط على خصومها وشركائها، إلى جانب توظيف ذلك في استراتيجية حماية أمنها القومي، وهو ما يعد قلباً لمعايير النشاط التجاري.

   ففي مقابل تبنّي سياسة اقتصادية حمائية تهدف إلى تركيز سيطرتها على الصناعات والموارد الاستراتيجية، فإنها حوّلت العقوبات الاقتصادية إلى ورقة للضغط والمساومة لانتزاع مكاسب سياسية واقتصادية، كفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية لتحقيقها في جرائم الإبادة التي ارتكبها الكيان الإسرائيلي في حرب غزّة، وهو ما يعد انتهاكاً صارخاً لسيادة المؤسسة الدولية، وتقويضاً للآليات الأممية لمحاكمة مجرمي الحرب.
وقد حولت العقوبات الاقتصادية إلى ورقة ضغط على خصومها، من إيران إلى منافسها الجيوسياسي الصين، إلى جانب استخدام التعرفة الجمركية ورقةً اقتصادية لتعويض ميزان التضخّم التجاري، بفرض رسوم على الواردات والتبادلات التجارية، وأيضاً توظيفها سياسيا في سياق حماية أمنها القومي، إذ أجبرت الدول المجاورة لها، بعد التهديد بفرض الرسوم الجمركية بالخضوع لسياستها الداخلية لوقف تدفقات اللاجئين إلى أراضيها.

وبالتوازي مع سياسة التوظيف والعقاب التي باتت نمط السياسة الخارجية لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فقد شكل الاقتصاد ورقة للمساومة والابتزاز ونهب الموارد السيادية لشركائها، إذ ربطت موقفها السياسي من الحرب الروسية-الأوكرانية، بعقد صفقة مع أوكرانيا تتيح لها الحصول على معادنها الثمينة، لتعويض مساعداتها العسكرية لأوكرانيا، مقابل تحويل المساعدات المالية والإنسانية سلاحاً لإخضاع الدول وربطها بسياساتها الخارجية أيضاً.

   تقوّض السياسات الاقتصادية القائمة على مبدأ الهيمنة، باستخدام العقوبات الاقتصادية وبدون منهجية أو لوائح ثابتة، من استقرار العلاقات الدبلوماسية الدولية، ومن ثم النظام العالمي، سواءً طالت العقوبات الخصوم أو الحلفاء، إذ تفتت الأطر القانونية التقليدية لحل المنازعات التجارية والاقتصادية، وتخضعها قسرياً لاشتراطات السياسة وتقلباتها.
كما أن السياسات الاقتصادية القائمة على فرض الهيمنة، ومبدأ ربحية الأقوياء على حساب الضعفاء، وفي حالة أميركا على حساب الجميع، تصعّد التوترات الاقتصادية البينية وتدفعها إلى مستويات خطرة، تتجاوز أبعاد سياسة الخنق الاقتصادي الذي تعوّل عليه الإدارة الأميركية لإخضاع خصومها، إلى توليد ارتدادات أعمق، بما في ذلك اتّساع مجالاتها.
ففي حين تطيحُ استراتيجيّة تحويل الاقتصاد إلى أداة للمساومة وانتزاع مكاسب، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو أمنية، من الدبلوماسية الدولية في حل النزاعات والحروب وتكشف عوارها، فإنّ استخدام التعرِفة الجمركية سلاحاً سياسياً واقتصادياً يربك خارطة التبادلات التجارية الدولية وأسواقها، بما في ذلك رفع احتمالية تدشين حروب تجارية مقبلة لا يمكن التكهن بآفاقها أو نتائجها.
إضافة إلى مخاطر التأثير على قطاعات صناعية عديدة، وعلى تدفقات البضائع، مما قد يؤدي إلى رفع أسعارها عالمياً، ناهيك عن التأثير على الشركات التجارية الكبرى، التي قد تلجأ إلى تسريح جزء من عمالتها لمواجهة التقييدات الاقتصادية، الأمر الذي سيفقد قطاعات واسعة من العاملين لوظائفهم، كما أن السياسات الاقتصادية الحمائية والحروب التجارية قد تزجّ بقطاعات تجارية وصناعية جديدة في أتونها، إذ قد تكبح النمو الاقتصادي العالمي، وتنمّي حالة متواترة ومستمرة من عدم اليقين، ومن ثم تخلق أزمات اقتصادية مصاحبة.

وإذا كانت ارتدادات الحروب التجارية تضاعف التحديات المجتمعية والإنسانية، على مستوى الدول والمجتمعات، فإنّ تجميد الإدارة الأميركية الحالية للمساعدات الخارجية، بعد وقف أعمال الوكالة الأميركية للتنمية الدولية يفاقم التحدّيات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية في العالم خاصة في بلدان الحروب.

   في مقابل مَركزة استراتيجيتها الاقتصادية والتجارية لخدمة مصالحها، كيّفت الإدارة الأميركية سياستها الخارجية بإعادة توجيه نظام مساعداتها وتمويلاتها وتقييده بتمثيل أجندتها السياسية، ومن ثم وقف برامجها التمويلية والإنسانية للدول النامية، ما يعدّ تحولاً لافتاً في سياستها الخارجية، بالتخلي عن أهم أدواتها التقليدية التي ظلت ركناً رئيساً في تثبيت هيمنتها السياسية والإيديولوجية في العالم، وهو ما يعني إعادة موضعة علاقاتها الخارجية، مقابل تغيير مرتكزاتها، وفلسفتها أيضاً، وحصرها في سياق جَنْي المكاسب فقط، من دون تكبد خسائر مالية.
وبالتالي فإنّ هذا النهج النفعي لرأسمالية متوحشة، لا يعمل على توسيع الفجوة بين المجتمعات الغنية والمجتمعات الفقيرة فحسب، بل يخلق تحديات اجتماعية واقتصادية وإنسانية في هذه المجتمعات، فضلاً عن الإرباك الذي قد يطال نظام المساعدات العالمي.
ففي حين رافق مسار الهيمنة الأميركية، توظيف المساعدات المالية والتنموية أداةَ ضغط على الحكومات لفرض اشتراطاتها السياسية، فإنها شكلت وسيلة اختراق مجتمعي، وذلك بالتأثير غير المباشر على المجتمعات المحلية، إمّا بفرض أجنداتها الثقافية والسياسية والاقتصادية، أو بتنمية شركاء ثانويين متعددين من خلال دعم المنظمات المحلية، بما في ذلك إبراز قيادات محلية، ضمن صناعة النخب السياسية الموالية لها، إلى جانب توجيه المشاريع في إطار تثبيت نموذج الليبرالية الاجتماعية والسياسية في المجتمعات المحلية.

ومع أن تقييم المساعدات التنموية عموماً يحتاج قراءة أكثر عمقاً، وقياساً لأثرها المجتمعي، إلّا أنّها ظلت إلى حد كبير مرتبطة بآنية التدفقات المالية واتجاهات تصريفها، ما أعاق تجذيرها بوصفها مشاريع وطنية تدعم المجتمعات الهشة، وإن وقف المساعدات التنموية الأميركية يعطل هذه المشاريع، كما يضاعف التحدّيات التي تواجهها الحكومات، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، كونها المستفيد الأكبر منها، إلى جانب التأثير على عمل المنظمات المحلية.

وفي حين تركزت مشاريع الدعم الأميريكي في الجانب التنموي والسياسي أيضاً، ومساهمتها في تأهيل البنى التحتية التي شملت قطاع التعليم والصحة، ودعم الفئات الاجتماعية الضعيفة، ومواجهة التغيرات المناخية ومكافحة الفقر، إلى دعم مشاريع الحوكمة الرشيدة وتمكين المرأة، ورعاية التحوّل الديمقراطي، أي مظاهر تثبيت الليبرالية الاجتماعية والسياسية، فإنّ وقف تمويل هذه المشاريع، وخاصة تأهيل البنى التحتية سيترتب عليه تحويل هذا العبء إلى الحكومات المحلية التي تواجه أزمات اقتصادية من تضخم مديونيتها وعجزها، وفسادها، مما قد يعيق استمرارية هذه المشاريع، كما أن سياسة تجميد المساعدات التنموية قد تدفع القوى الدولية، في ظل الحروب التجارية والاقتصادية إلى تقليص تدخلاتها لتمكين الحكومات المحلية، ومن ثم فإن غياب الدعم الأميركي قد يخلق فجوةً بالنسبة للحكومات في البحث عن بدائل لتمويل هذه المشاريع.
ومن جهة ثانية، فعلى الرغم من محدودية فعالية المنظمات المحلية بما في ذلك جدوى أنشطتها المجتمعية، فإنّ فقدانها للتمويل الأميركي الذي ظل ولعقود شرياناً مهماً لتنفيذ برامجها المحلية، قد يجعلها تخضع للحكومات بالاعتماد عليها مصدراً للتمويل المالي، ما يفقدها استقلاليتها. إلا أن الأهم، وفي سياق وقف مساعدات مشروطة وموجهة هو تداعيات وقف المساعدات الإنسانية على النطاقات المجتمعية المحلية، إذ إن وقف الإدارة الأميركية للمساعدات الإنسانية العاجلة، بما في ذلك المساعدات الغذائية والعلاجية تعني، وفي ظلّ تنامي حالة الفقر في بلدان الحروب واتّساع جغرافيتها، حرمانَ الفئات الأضعف من التدخلات الإنسانية المنقذة للحياة؛ فعصرُ ازدهار أميركا، وحروبُها السياسية والتجارية، يعني أولاً وأخيراً سحق الشعوب وإفقارها.