ألقت الزيادات الأخيرة في سعر صرف الدولار مقابل الجنيه منذ نوفمبر الماضي، ظلالها على معدلات التضخم التي شهدت تراجعًا إلى 24.1% على أساس سنوي في ديسمبر الماضي وهو أدنى مستوى في عامين، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
التباطؤ هو الثاني في خمسة أشهر منذ أن بدأ معدل التضخم في التسارع في أغسطس الماضي، وذلك عقب أن انعكست زيادات حكومة السيسي لأسعار الوقود وتذاكر القطارات ومترو الأنفاق في الآونة الأخيرة على القراءات الخاصة بأسعار المستهلكين. وسبق ذلك زيادة سعر رغيف الخبز المدعم 300% بنهاية مايو، في خطوة هي الأولى منذ أكثر من 3 عقود.
وارتفعت المجموعات السلعية المؤثرة في سلة أسعار المستهلكين لإجمالي البلاد (على أساس سنوي) كالتالي:
ارتفعت أسعار الحبوب والخبز 24.36%.
زادت أسعار الخضراوات 4.4%.
ارتفعت أسعار اللحوم والدواجن 19.8%.
"كل يوم المنتجات بسعر مختلف"
دخل خالد فهمي، وهو موظف أربعيني في إحدى شركات القطاع الخاص، إحدى السلاسل التجارية الكبرى وسط القاهرة، وهو يعض شفتيه بما لا يسره من السعر المدون على أرفف منتجات الألبان، في سوق تحيا أزمة اضطراب تسعير مستمر بدعاوى ومبررات متفرقة.
مضى خالد يقلب ببصره منتجات بديلة أرخص في مهمة شراء بعضها من لوازم إعداد وجبة الإفطار لطفليه اللذين يدرسان في المرحلتين الابتدائية والإعدادية، غير أن الملاحظ كما يبدو تقلب سريع في أسعار تلك المنتجات كل بضعة أيام فحسب، مما أربك موازنة إنفاقه التي تتفرع كل شهر في مسعى إلى الوفاء بالتزامات ثقيلة وأفواه شاغرة.
بضجر واضح يقول خالد، "كل يوم المنتجات بسعر مختلف. شيء غير معقول وفوضى تسعيرية تستدعي وقفة جادة وضرب على أيدي التجار كي يكفوا. حتى متى ستتواصل تلك المظاهر؟". وفقًا لـ"اندبندنت عربية".
يتكسب خالد 15 ألف جنيه (303 دولارات) شهرياً، وأمام زوجة وطفلين وطلبات لا تنتهي سرعان ما تدهمه أزمة الحاجة بعد 20 يوماً في الأكثر من تلقي الراتب، وهو أمر يتغلب عليه تارة بالاستدانة، وأخرى بالتخفف من بعض الالتزامات، كأن يقلص نفقات المأكل يوم أو يومين أسبوعياً، لكن أمام تقلبات الأسعار وتحركها الدائم في بلاده تبقى عملية هندسة الإنفاق أصعب من ذي قبل.
أسعار تصعد لا تهدأ
تتشارك أم أحمد، وهي ربة منزل وأم لثلاث من الأبناء، ثقل عبء هندسة نفقات أسرتها كل شهر ككثير من الأسر متوسطة الدخل في مصر، فيما الزوج مقعد لأسباب تتعلق بالمرض، وتشكو أن الأسعار في بلادها تأخذ منحى صعودياً فقط من دون أن تلتقط الأنفاس، "أتفاجأ في اليوم أكثر من مرة، ما بين أسعار مرتفعة لمنتجات اشتريتها بسعر أقل قبل أيام، وما بين نفقات تزداد كلما طلب أبنائي أموالاً لشراء بعض حاجاتهم".
وتضيف المرأة الأربعينية في حديثها "مصروف الشهر لا يكفي، ويوماً تلو الآخر نضغط الإنفاق ونؤجل الحاجات ونقتصد كي تمضي الأيام لعلنا نجد انفراجة. يتعين على الحكومة البحث عن حل ووقف نزف الأسعار وضبط الأسواق والتسعيرة، فلا يمكن أن تمضي الحال بهذه الصورة طويلاً".
التعويم الخامس للجنيه
ووضعت حكومة السيسي مصر في أزمة اقتصادية طاحنة منذ سنوات على خلفية الأزمات العالمية والإقليمية، وتبنت إصلاحات بموجب اتفاق مع صندوق النقد الدولي عومت بمقتضاها الجنيه خمس مرات بدأت في 2016 ليرتفع من مستوى ثمانية جنيهات للدولار إلى 15.7 جنيه، مما استمر حتى الـ21 من مارس 2022 مع التعويم الثاني، إذ انخفض الجنيه إلى 19.70 جنيه، ومن ثم في الـ27 من أكتوبر 2022 انخفض لمستويات 27.70 جنيه فيما حل التعويم الرابع في الرابع من يناير 2023 لينخفض الجنيه في مقابل الدولار إلى 30.90 جنيه، ومع التعويم الخامس في مارس 2024 تراجع الجنيه إلى مستويات 50 جنيهاً للدولار الواحد، وما زالت الزيادات مستمرة حتى وصلت نحو 52 جنيهًا قبل أيام.
تجاهل حكومي لزيادة أعداد الفقراء
وأشار نقيب التجاريين حافظ الغندور إلى اختيار الحكومة مسارًا وحيدًا مع صندوق النقد الدولي، غير مدركة أن الصندوق، كالمستشفى الذي يحتوي على عدة تخصصات، يطلب منها المريض ما يناسبه للعلاج. وأكد الغندور اكتفاء الحكومة بالاتفاق على علاج الأزمة الاقتصادية بتطبيق التشدد النقدي، ومرونة سعر الصرف، ورفع الفائدة لجذب الأموال الساخنة وكبح التضخم، بينما تكمن مشكلة مصر الحقيقية في عدم وجود برامج تنموية تساعد على حل المشكلات الاقتصادية المتراكمة منذ 60 عامًا، ما رفع معدلات الفقر إلى 60% من تعداد السكان.
وأبدى الغندور دهشته من رغبة الحكومة في تقليص الدعم عن الفقراء دون خطة تضمن تقليص أعدادهم. كما تساءل عن توقف "الحوار الوطني"، الذي استهدف الخروج من الأزمة الاقتصادية، دون إعلان نتائجه أو تطبيق الحلول المقترحة خلال جلساته في أي مشكلة تواجه الدولة حاليًا. وبيّن أن الحوارات التي أجراها رئيس مجلس وزراء السيسي مؤخرًا مع بعض رجال الأعمال أظهرت ضيق أفق المتحدثين، وعشوائية الحلول التي تعكس طلبات فردية دون مشاركة بحلول كلية للمشاكل التي تعاني منها الدولة، وفقًا لـ"العربي الجديد".
وأكدت أستاذة الاقتصاد بجامعة عين شمس والبرلمانية السابقة، يمن الحماقي، أن الفجوات العميقة بين المصلحة العامة والخاصة تهدر موارد الدولة الواسعة. وطالبت بوضع أولويات تحقق معدلات أعلى من النمو، يأتي على رأسها رؤية اقتصادية واضحة، والحد من سيطرة المصالح الخاصة على المصلحة العامة، ومكافحة الفساد. وأوضحت أن عدم الاستقرار الكلي ناجم عن ارتفاع معدلات البطالة والتضخم، مشيرة إلى أن السياسات التجارية غائبة تمامًا وتتوزع إدارتها بين وزارات المالية والتجارة والاستثمار، رغم أهميتها لدعم الصادرات.
ثلاثة زلازل
وصفت الحماقي لجوء الحكومة إلى تعويم الجنيه منذ عام 2016 بأنه "ثلاثة زلازل" أدت إلى خفض قيمته من مستوى 15 جنيهًا إلى أكثر من 50 جنيهًا مقابل الدولار، مما تسبب في معدلات تضخم غير مسبوقة، أثرت بشدة على المنتجين والمستهلكين معًا، وأدت إلى توقف العرض والطلب، بما عطّل النمو الاقتصادي. وحذّرت من خطورة عدم استقرار سعر الصرف، مؤكدة أن مصر لن تتحمل تعويمًا جديدًا. وبيّنت أهمية زيادة التدفقات النقدية من الخارج، عبر تشجيع الصناعات الصغيرة والمتوسطة وتحفيز الصادرات للحفاظ على التوازن بين العرض والطلب على الدولار وسعر الجنيه.
وأوضحت الحماقي أن الحكومة تعتمد على أميين في إدارة أسواق السلع اليومية للجمهور، ولا تهتم برفع كفاءة السوق وتشجيع الصناعات الصغيرة التي تمثل نسبة 4% من حجم الصادرات، بينما ترتفع تلك النسبة إلى 45% في فيتنام، وسببت النهضة الصينية. ودعت الحماقي إلى مكاشفة المواطنين بحقيقة الأزمة الاقتصادية ومحاربة الفساد، بدلاً من التفاخر بأرقام غير واقعية في حفلات مكلفة تُجرى في فنادق خمس نجوم، مشيرة إلى ضعف الأداء وعدم كفاءة القائمين على البرامج الاقتصادية.
بدوره، عبّر خبير التمويل والاستثمار حسن الصادي، عن مخاوفه من انهيار الدولة أمام الضغوط الاقتصادية، مشددًا على ضرورة تحقيق طفرات نمو تُعادل أضعاف النمو السكاني للحد من الفقر والتضخم. وانتقد الصادي تدخل الدولة في السوق ومزاحمتها للقطاع الخاص، مشيرًا إلى خروج العديد من الشركات المصرية للعمل بالخارج بسبب السياسات الاقتصادية غير المستقرة. ودعا إلى ضرورة اعتماد سياسات شفافة ومستقرة تُشجّع المستثمرين.
واختتم الصادي حديثه بالدعوة إلى وقف استنزاف الموارد في مشروعات البنية التحتية غير المنتجة، والتركيز على استغلال الطاقات الإنتاجية الحالية لتوظيف الموارد المالية بشكل فعّال.