د. علي الحمادي

 

شخصان، أحدهما ذكي والآخر ساذج، كانت لديهما مشكلة، فكلاهما كان يدمن التدخين، وكان يقضي جل يومه متعبدًا ولا يستطيع البعد عن التدخين.

اتفق الاثنان على عرض هذه المشكلة على رئيسيهما ليفصلا فيها في غضون أسبوع.

وعندما تقابلا ثانية سأل الذكي صاحبه الساذج عن النتيجة فأجابه بقوله: كارثة، لقد وجهت لرئيسي سؤالًا: هل تأذن لي في التدخين أثناء فترة الصلاة؟ فغضب، وعاقبني على عدم الاحترام، ولكنني أراك سعيدًا يا أخي، فما هو سر سعادتك؟

ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتي الرجل الذكي وهـو يقـول: لقد توجهت إلى رئيسي قائلًا: هل تأذن لي بالتعبد أثناء التدخين؟ فلم يأذن لي فقط ولكنه حياني لورعي وتقواي!!

على غرار ما فعله الرجل الذكي، يعرف المتحدثون الناجحون كيف يستثمرون كل كلمة، إذْ تبين الدراسات العديدة أن المتحدثين المهرة يتمتعون بمصداقية أكبر، وروح أعلى، وقدرة أكبر على الحوار والإقناع والمنافسة.

ومن جهة أخرى، فإن المتحدثين المترددين الذين تنقصهم طلاقة اللسان، ويستخدمون لغة تخلو من أوجه القوة لا يتمتعون بمصداقية، كما وتبدو عليهم أمارات الضعف والوهن.

إن الفصاحة وقوة الكلمة من أهم ما يحتاجه كثير من الذين يمارسون الإقناع أو ممن يودّون التأثير في الآخرين وقيادتهم وتوجيه قناعاتهم ومن ثم جهودهم وإمكاناتهم لصالح أهداف وقناعات وتوجهات المقنعين.

لقد أولى الإسلام الكلمة المنطوقة أهمية قصوى، وجعلها قناة لتبليغ الرسالة وإقامة الحجة، والقرآن الكريم يحفل بالآيات التي تدل على أهمية الكلمة المنطوقة.

يقول الله تعالى: “ الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان “ (الرحمن، الآيات: 1-4).

ويقول الله تعالى: “ ألم نجعل له عينين. ولسانًا وشفتين “  (البلد، الآيتان: 8-9).

ويقول الله تعالى عن داود عليه السلام: “ وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب “ (ص، الآية:20).

ويقول الله تعالى على لسان موسى عليه السلام: “ وأخي هارون هو أفصح مني لسانًا فأرسله معي ردءً يصدقني إني أخاف أن يكذبون “ (القصص، الآية: 24).

ويقول الله تعالى: “ وما أرسلنا من رسول إلا  بلسان  قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم “ (إبراهيم، الآية: 4).

ويقول الله تعالى: “ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين “ (النحل، الآية: 125).

وكذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على البيان وحسن الكلام، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قدم رجلان من المشرق فخطبا فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ إن من البيان لسحرا “ (رواه البخاري).

ولقد كان الأحنف بن قيس رضي الله عنه قصير القامة، صغير الرأس، منخفس العينين، مائل الذقن، متراكم الأسنان، أعور، أعرج، إلا أنه مع كل هذه العيوب الخَلْقِية كان خطيبًا مفوَّهًا، قال عنه الجاحظ: أبين العرب والعجم قاطبة الأحنف بن قيس. وقال عنه الحسن: ما رأيت شريف قوم أفضل من الأحنف بن قيس. لذا كان الأحنف إذا رفع سيفه رفع خلفه مائة ألف سيوفهم لا يسألونه لم رفع سيفه، فانظر إلى الأثر البالغ للفصاحة في قيادة الآخرين وإقناعهم بذاتك وبما تحمله من أفكار وتوجهات وهموم واهتمامات.

 

يقول الشاعر:

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده *** فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

ويقول آخر:

جراحـات السـنان لهـا التئام *** ولا يلتام مـا جـرح  اللسـان

ويقول الإسكندر المقدوني: اعطني لسان خطيب أعطيك ألف مقاتل.

ويقول الشاعر الأسباني (في القرن الحادي عشر) باهيا بن باكودا:    اللسان قلم القلب ورسول العقل.

ويقول بشر بن المعتمر: من أراد معنى كريمًا فليلتمس له لفظًا كريمًا، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف.

ويقول أفلاطون: الخطابة هي فن توجيه عقول البشر.

ويقول أرسطو: لا يكفي أن يعرف المرء ما ينبغي أن يقال، بل يجب أن يقوله كما ينبغي.

ويقول سقراط: إننا نعد القدرة على الكلام بدقة أقوى دلالة على الذكاء، لا شيء مقترنا بالذكاء يتم صنعه بلا كلام.

ويقول هتلر: كل الأحداث العظام التي هزت العالم لم تحدثها المادة المكتوبة بل الكلمة المنطوقة.

ويقول إف إل لوكاس: رغم أن اللسان لا عظام فيه، لكنه يحطم ملايين منها(1).

وقال أحمد بن أبي داود القاضي: لما عظم أمر تميم بن جميل ونبه ذكره بشاطيء الفرات أمر المعتصم بالله مالك بن طوق بالزحف عليه وتبديد جمعه وشد وثاقه بين يدي المعتصم.

فلما مثل بين يديه أسيرًا مصفدًا، وقد أعجب به المعتصم لحسنه وجماله وثقته بنفسه حيث يمشي إلى الموت غير مكترث به، قال له المعتصم: يا تميم، ماذا تقول فيما آلت إليه حالك وقد أذنت لك بالكلام؟

قال تميم بن جميل: أما وقد أذنت لي بالكلام، فـ “ الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين، وجعل نسله من سلالة من ماء مهين “، يا أمير المؤمنين، جبر الله بك صدع الدين، ولمّ بك شعث الإسلام والمسلمين، وأوضح بك سبل الحق، وأخمد بك شهاب الباطل، إن الذنوب تخرس الألسنة، وتصدع الأفئدة، ولقد عظمت الجريرة، وانقطعت الحجة، وساء الظن حتى لم يبق إلا عفوك أو انتقامك، وأرجـو أن يكون أقربهما مني وأضرعهما إليَّ أسبقهما إليك وأولاهما بكرمك، وأنشد:

أرى الموت بين السيف والنطع كامنًا *** يلاحظنـي من حيـث ما أتلفت

وأكبـر ظنـي أنك اليـوم قاتـلي *** وأي امريء مما قضى الله يفلت

وأي امـريء يأتـي بعـذر وحجة *** وسيف المنايا بين عينيه مصلت

وما جزعي مـن أن أمـوت  وإنني *** لأعلم أن المـوت شـيء مؤقت

فقال المعتصم: لقد أقنعتني حجتك وحسن دفاعك عن نفسك بالحق أو بالباطل (2).

............................................

المصادر:

(1) أحمد بن راشد بن سعيد، فن الكلام، دار جبل الشيخ للإعلام والنشر، الرياض، 1418هـ،

(2) إبراهيم بن عبد الله الحازمي، الأجوبة المسكتة، ج 1، دار الشريف للنشر والتوزيع، الرياض، 2001، ص 302، نقلًا عن:ابن الأثير، الكامل، ج 6، ص 523-528، وعن: تاريخ الخلفاء، ص 333-340.