تسارعت الأحداث في سورية بشكلٍ لم يكن متوقّعاً، خصوصاً بعد أن انتكست الثورة السورية، وظلّت سنواتٍ تلملم جراحها وأوجاعها وهي ترى نفسها تنزلق إلى حربٍ أهليةٍ مدمّرة.
التركة ثقيلة، ولن تقدر تماماً على افتراض استعادتها وانتصارها على مداواتها بشكل فعّال؛ ملايين المهجّرين، مئات آلاف المُعتقَلين، علاوة على الدمار الكبير الذي أصاب البنية التحتية لجُلّ المدن والقرى والأرياف السورية.
لا يمكن تماماً أن نُحصي الحصيلة التي انتهت إليها الثورة من دون استحضار الشرخ المجتمعي الكبير بين مكوّنات الشعب السوري، وتقطّع الوطن أشلاءً غدت مناطق نفوذ عديدة، بعضها لمكوّنات إثنيةٍ وطائفيةٍ ومذهبيةٍ سورية، والأخرى احتلّتها قوىً أجنبية اصطفّت مع هذا الطرف أو ذاك.

تقع المسؤولية الكبرى لهذه التركة الثقيلة والدامية على عاتق النظام السوري، غير أن ذلك لا يعفي أيضاً أطراف الداخل السوري؛ حركات وشخصيات وهيئات ومبادرات ومسارات.

السؤال الذي علينا طرحه: أيّ علاقة بين الثورة السورية في أشهرها الأولى وما يجري حالياً؟ هل ما يدور الآن وبشكل متسارع ثأر للثورة السورية الموؤودة، أم هو مُجرَّد امتداد لها؟ هل ما يدور حالياً، منذ أسبوعين تقريباً شكل آخر من الصراعات المسلّحة التي لا تربطها سوى علاقات ضعيفة مع "روح الثورة السورية" في حالتها الأولى البِكر؟

لسنا في وارد المقارنة بين تلك الصورة الشاعرية التي شاهدها العالم لبدايات الثورة السورية، التي كانت الشوارع فيها ملأى بجيلٍ شابٍّ مفعمٍ بالحيوية والرغبة في الحياة خارج تلك المناخات التي فُرِضَت بالحديد والنار على السوريين منذ أكثر من سبعة عقود تقريباً، حكم فيها حزب البعث حكماً شمولياً استبدادياً.
كانت الثورات العربية الأخرى التي رافقت بدايات الثورة السورية تلك، سواء في تونس أو في مصر أو في اليمن، في طوْرها الحالم، لا تتّسع السماوات إلى تلك الانتظارات كلّها، التي حملها الشارع في تلك البلدان.

في الأثناء، تسلّحت الثورة السورية، وتشتّت ريحها، وتفرّق أبناؤها، وتدحرجت أيضاً خلال هذه المدّة جُلُّ الثورات العربية تلك إلى ما يشبه الحروب الأهلية التي عاشتها سورية، وإن كان بأشكال متفاوتة وبأحجام مختلفة.
أغلق قوس الربيع العربي بانطفاء آخر شمعة فيها، حين انقُلِب على تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، ولم تستطع قوى الثورة حمايتها لأسباب عديدة لا يتّسع المجال لذكرها.

خلال ما يناهز 15 سنةً من اندلاع الثورات العربية، جرت مياهٌ غزيرةٌ في مجرى التاريخ، سواء على الصعيد المحلّي أو الدولي، غير أنّنا خرجنا في الحالات كلّها من زمن الثورات الهادر الى زمن آخر نحتار جميعاً في توصيفه، قد يكون زمن الانتكاسات والتسويات البراغماتية للحدّ الأدنى المحتمل سياسياً.

مع تسارع الأحداث ورحيل بشّار الأسد، يستعيد السوريون أحلامهم الكثيرة التي قد لا تتّسع إليها سماوات الشام؛ العودة؛ الحرّية؛ وأشياء كثيرة بحجم المأساة التي عرفوها والأشواق التي خبّؤوها.
ستظلّ صورة الطفل إيلان الذي لفظته الشواطئ أبلغ من الأمنيات كلّها التي جاش بها فيض أشواق السوريين.
في لحظات الفرح العارم، لا ينتبه الناس إلى الوصايا والنصائح وتغدو الدروس المستخلصة والمواعظ إفساداً لما يغمر الناس من غبطة وبهجة، واندحار فلول النظام لا يمكن إلّا أن يطلق عنان فرحة السوريين.

ما يجري حالياً في سورية كان يمكن أن يشبه، إلى حدّ كبير، ما جرى في ليبيا، يتفكّك النظام، ويتقدّم الثوار المسلّحون لمحاصرته في عقر داره، وتكون معركة مميتة ودامية في دمشق باعتبارها آخر "مربع حياة" للنظام، ممّا يدفعه إلى القتال الى آخر لحظة بكل ضراوة ممكنة، وهو الذي أحلّ دماء السوريين، ولم يتورّع عن استخدام البراميل المتفجّرة، ولم يكن مستبعداً أن يستعمل ما تبقى له من خزّان القتل الممكن، بما فيه الأسلحة الكيمياوية والمحرمة دولياً.
لكنّ السيناريو الذي حدث أن المعارضة دخلت دمشق من دون مقاومة فعلياً، ويبدو أن الأسد لجأ إلى بلد حليف، قد يكون إيران أو روسيا.

لم تدُم حرب دمشق طويلاً، ولم تتدخّل أطراف خارجية، لكن تركة ثقيلة ستظلّ تؤرّق السوريين؛ الذاكرة وجراحها الغائرة، وحدة الوطن بعد أن تمزّق أشلاءً، القدرة على بناء الديمقراطية، خصوصاً في ظلّ مكون إسلام سياسي متشدّد حسم المعركة عسكرياً.
وأخيراً إدارة علاقات الجوار برصانة وعقلانية، خصوصاً مع لبنان والعراق وتركيا وإيران، والكيان الإسرائيلي.