بعد اندلاع ثورة التحرير الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي في 1 نوفمبر 1954 اضطرت باريس إلى تعيين حاكم جديد لها في مستعمرتها الأهم أفريقيا، هو القائد العسكري جاك سوستال وكانت مهمته الأساسية القضاء الكامل على الثورة وبقسوة واستخدام كل الوسائل الممكنة من خلال تطبيق فكرة الإدماج السياسي والإداري للجزائريين في فرنسا.
كانت كل إصلاحات سوستال تحمل في طياتها فكرة الإلحاق، وقال في تصريحاته "إن الجزائر تؤلف جزءا لا يتجزأ من فرنسا"، لكنه واجه صعوبات شتى في تحقيق فكرته الإدماجية، بعدها لجأ إلى تفعيل قانون الطوارئ واستعان بضباط من ذوي الخبرة في حرب العصابات من أمثال الجنرال بارلنج والعقيدين ديكورنو وبيجا؛ للحد من روح المقاومة الشعبية وهزيمة الثورة.
وعلى طريقة طوفان الأقصى، اتخذت قيادة المنطقة العسكرية الثانية لجيش التحرير الوطني الجناح العسكري لـ"جبهة التحرير الوطنية" المفجرة للثورة؛ قرارها بشن هجمات كبيرة على مواقع جيش فرنسا ومصالحها الاقتصادية في تاريخ وتوقيت يصعب توقعهما، عُرفت باسم هجمات الشمال القسنطيني.
كان مهندس الهجمات، من الفكرة إلى التنفيذ، رجل يتشابه كثيرا في صفاته وعقله وطريقة تخطيطه مع يحيى السنوار حتى في مشهد النهاية، وهو الشهيد زيغوت يوسف الذي تولى قيادة المنطقة الثانية خلفا لقائده ديدوش مراد الذي استشهد في 17 يناير 1955. وكان القرار صعبا لأنهم كانوا يعلمون كيفية انتقام فرنسا.
وعلى طريقة السابع من أكتوبر 2023، وبعد تخطيط سري مكثف وقع الاختيار على يوم 20 أغسطس 1955 الذي صادف يوم سبت أيضا، لتنفيذ عمليات هجومية تكون ساعتها الصفر منتصف النهار، عكس كل التوقعات التي تعودت على عمليات مماثلة ليلا.
وإلى جانب التوقيت المميز لقتال الاستعمار في وضح النهار شارك في العمليات مقاومون مسلحون ببنادق صيد ومواطنون مسلحون بفؤوس وعصي وبنزين وآلات حادة.
هاجم المقاومون الجزائريون ثكنات عسكرية وأتلفوا أعمدة الكهرباء وأحرقوا مزارع ومخازن الحبوب، وتمكنوا من السيطرة على عدة مدن وقرى في هذا اليوم، مما سمح للجماهير الجزائرية بالتعبير عن رفضها للاستعمار ومساندتها لجبهة وجيش التحرير الوطني.
وقُتل من الفرنسيين 125 سواء من الجنود أو المستوطنين الفرنسيين.
جاء الرد الفرنسي على الهجمات وحشيا إلى أبعد الحدود، إذ أنزلت فرنسا جام غضبها على العزل والأبرياء من المدنيين، وقد أرسلت باريس 17 طائرة إلى محافظة سكيكدة لقصف القرى والمناطق التي حدثت فيها الهجمات.
يتداول المؤرخون الجزائريون تصريحات فرنسية تقول إن الجزائريين نظموا الهجمات في 20 من الشهر وسنقتل منهم 20 ألفا، وقد كان لهم ما أرادوا حيث ارتكبت فرنسا جرائم القتل الجماعي والذبح والحرق والسلب والنهب والقصف بالطائرات، وانتهاك الأعراض وبقر بطون الحوامل والتمثيل بالبشر وسحق الأطفال والنساء المكبلين بالدبابات ودفن الناس أحياء، وكانت حصيلتها استشهاد ما بين 12 ألفا إلى 14 ألف جزائري كما وثقه المؤرخ أحسن بومالي في كتابه عن "استراتيجية الثورة في مرحلتها الأولى".
وعلى طريقة نقاشات النخب العربية والفلسطينية بعد مقتل السنوار حول جدوى هجمات السابع من أكتوبر، وكم التضحيات الكبيرة التي دفعها أبناء غزة، فجرت الحصيلة الدموية الثقيلة التي خلفتها هجمات الشمال القسنطيني خلافات بين قادة الثورة الجزائرية، ما دفعهم للإسراع إلى تنظيم مؤتمر الصومام لمراجعة وتقييم أداء الثورة.
بعد سنة من تلك الهجمات، اجتمع قادة الثورة في وادي الصومام، وهناك دافع زيغود يوسف بقوة عن الهجمات معتبرا إياها خففت الحصار على الثورة، كما تمت ترقيته في المؤتمر إلى رتبة عقيد.
لم تغفر فرنسا لزيغود يوسف تخطيطه وتنفيذه في هجمات الشمال القسنطيني فطاردته لمدة عام كامل كما طارد الاحتلال الصهيوني يحيى السنوار، حتى أغارت عليه القوات الفرنسية بعد كشفها لهويته لتتمكن من قتله في 23 سبتمبر 1956.
وقالوا عنه إنه كان صاحب نظرة متكاملة للثورة وقدرة جيدة على قراءة الأحداث الداخلية والخارجية، لذلك قرر إطلاق انتفاضة شاملة في المنطقة التي يقودها حتى يكون لها ما بعدها محليا وعالميا، وكان هذا سببا رئيسا لاستقلال الجزائر بعد سنوات.
هجمات الشمال القسنطيني كانت بمثابة الانطلاقة الثانية لثورة التحرير، فقد أسقطت دعاية الاستعمار التي كانت ترفض اعتبار اندلاع الكفاح المسلح "ثورة" وتصر على وصف المقاومين الأوائل بأنهم "أقلية خارجة عن القانون"، وكسرت حاجز الخوف وغيّرت قناعات الناس وأثبتت أن الشعب الجزائري مصمم على نيل الاستقلال.
كان وقع الهجمات وصداها بداية لتدويل القضية الجزائرية عالميا، وحطم إلى الأبد فكرة دمج الجزائريين بفرنسا والقضاء على شخصيتهم الإسلامية العربية، بعدها أصبح ممثلو الثورة يحضرون المؤتمرات الدولية بصفة أساسية، ما اعتبر نصرا دبلوماسيا مكن قيادة الثورة من البناء عليه حتى نالت الجزائر استقلالها بعدها بسنوات قليلة.
واحدة من أهم محطات دعم وإنجاح الثورة الجزائرية كانت العاصمة المصرية القاهرة ودعم النظام المصري برئاسة عبد الناصر للثورة الجزائرية.
قال محمد حسنين هيكل في كتاب "ملفات السويس/ حرب الثلاثين عاما" إن أول شحنة سلاح وصلت لثوار الجزائر كانت مقدمة من مصر عام 1956 وقُدرت بحوالي 8 آلاف جنيه، كما تلقت الثورة الجزائرية أكبر شحنة من السلاح المصري أثناء اندلاع القتال على الجبهة المصرية إبان العدوان الثلاثي عليها، وكانت هناك صفقة سلاح من أوروبا الشرقية للجزائر بتمويل مصري بلغ حوالي مليون دولار، كما قدمت مصر 75 في المئة من الأموال التي كانت تقدمها جامعة الدول العربية للثورة الجزائرية والمقدرة بـ12 مليون جنيه سنويا.
تذكرت هذه الأسلحة وأنا أطالع الأخبار التي انتشرت الأيام الماضية حول استقبال ميناء الإسكندرية المصري السفينة كاثرين التي تحمل شحنة سلاح ومتفجرات في طريقها إلى جيش الاحتلال، وسط محاولات نظام السيسي لتبرير الموقف المشين عبر إصدار بيانات متناقضة؛ تارة على لسان المتحدث العسكري وتارة أخرى على لسان وزير النقل المصري في فضيحة كبري.
في اليومين الماضيين أيضا انتشرت صور ومقاطع مصورة لسفينة حربية صهيونية ترفع علم الاحتلال وتعبر من قناة السويس المصرية تحت سمع وبصر وإذن نظام السيسي؛ الذي تحجج باحترام اتفاقية القسطنطينية الموقعة عام 1888 والتي تنظم حركة الملاحة في قناة السويس.
تحسرت وأنا أتابع كيف برر نظام السيسي هذه الخيانة عندما عدت بالذاكرة مرة أخرى إلى ما فعلته مصر للثورة الجزائرية عبر قناة السويس في خمسينيات القرن الماضي.
خصصت مصر الدخل الأولي من تأميم قناة السويس والذي بلغ 3 مليارات فرنك فرنسي للكفاح الجزائري، وكانت أهم التدريبات العسكرية الفعالة لجيش التحرير الوطني خارج الجزائر كانت تتم بمصر، وكانت القاهرة هي مقر الحكومة الجزائرية المؤقتة التي تأسست في 19 أيلول/ سبتمبر 1958.
ويذكر أن النشيد الوطني الجزائري (قسما) الذي بدأ استعماله عام 1963 هو من تلحين الفنان والملحن المصري محمد فوزي.
الدعم المصري الواضح والقوي للثورة الجزائرية آنذاك دفع بن جوريون (أول رئيس وزراء للاحتلال) للقول بأنه على أصدقاء الاحتلال المخلصين في باريس أن يقدروا أن عبد الناصر الذي يهددهم في عمق الاحتلال؛ هو نفسه العدو الذي يواجههم في الجزائر.
هكذا كانت مصر الداعمة للثورة الجزائرية، وهكذا أصبحت غارقة بين سفينتين وفضيحتين وخيانتين.