ليست المشكلة فقط أن شعباً شقيقاً يُباد على مقربةٍ منا، بينما نحن نقيم الأفراح والليالي الملاح.
وليست كذلك في أننا جزءٌ من معاناة هذا الشعب، المحاصر من جهتنا، المتروك لأعدائنا مستباحاً ذبيحاً، بينما ندّعي أننا قمنا تجاهه بالواجب وزيادة.
المشكلة الأكبر أن نهدر التاريخ الحقيقي للدولة لصالح ابتداع دور أكبر للقبيلة، على نحو بدا، في مجون الحفلة المبهرج، وكأنه "يأتيكم برعاية اتحاد القبائل"، ونحن في العشرية الثالثة من القرن الحادي والعشرين.
الحديث هنا عن ذلك الاحتفال الذي أقامه زعيم قبيلة مسلّحة في سيناء، قيل احتفالاً بذكرى حرب 6 أكتوبر (1973) ونحن على بعد ساعات من نوفمبر/ تشرين ثاني (2024)، بينما هو في واقع الأمر حفلة لإسماع حاكم الدولة ما يطربه من أغنيات وأفلام عن روعة إنجازاته، وتطالب ببقائه في السلطة مدى الحياة، ليبدو المشهد صادماً ومؤلماً؛ دولة تحت مظلة قبيلة وفي رعايتها، وليست قبيلة تخضع لسلطة الدولة، وتعامل مثلها مثل شرائح المجتمع الأخرى.
في تقديم الحفل واستعراض تاريخ الوطن من منظور صاحب القبيلة تحضر الأخيرة بوصفها صانعة الوطن وحاميته.
فهي، كما ورد على في الوثائقي المعروض في الحفل، قادت النظام العربي كلّه في حرب 1948 ضدّ عصابات الاحتلال الصهيوني (وانتهت بهزيمة)، وهي صاحبة الدور الأكبر في صدّ العدوان الثلاثي على مصر 1956، وأيضاً هى صاحبة الدور الرئيس في معارك حرب الاستنزاف بعد نكسة حزيران (1967)، ثمّ هي الحاضرة بقوة في تهيئة الطريق للدولة وجيشها إلى العبور في 1973، وأخيراً، هي الآن راعية النظام وحامية السلطة وشريكتها في البناء والتنمية والحرب على الإرهاب، لنصبح أمام واقع اجتماعي وسياسي مخيف، ينطق بأن السلطة اندمجت في القبيلة، بعد أن كان المطلوب في مدى عقود طويلة التوقّف عن تهميش المصريين أهالي سيناء، وحبسهم في مصطلح "البدو"، بدمجهم في المجتمع، ومعاملتهم كما يليق بمواطنين كاملي المواطنة.
يستوجب التنويه هنا أنه عقب الإعلان عن ما يسمّى "اتحاد القبائل العربية" برئاسة إبراهيم العرجاني، الشخصية النافذة في دنيا السلاح والاقتصاد وبيزنس المعابر، جاء الرد سريعاً من قبائل عربية في مناطق مصرية أخرى، قرّرت التصدّي له، فأصدرت جماعة تطلق على نفسها "مشايخ القبائل العربية في الصعيد والغرب" في مصر، بياناً هاجمت فيه تأسيس ما يسمّى "اتحاد القبائل العربية"، الذي أعلن رسمياً برئاسة رجل الأعمال المُقرّب من النظام المصري، إبراهيم العرجاني.
وقالت الجماعة إنها توجّه بيانها للإعلام المصري وقيادة الجيش والشرطة وجميع أجهزة الدولة المصرية، قائلة إن "المدعو إبراهيم العرجاني لا يمثّل القبائل العربية في مصر، وإن الاتحاد الوهمي للقبائل العربية، باطل بعرف العرب ولا يستند إلى شرعية".
مرّة أخرى، بعيداً عن معضلة اللاشرعية، فإننا أمام صورة مفزعة، تطغى فيها القبليةُ على المواطنة، وتتحوّل القبيلةُ من حليف للسلطة إلى شريكة فيها وراعية لها، إلى الحدّ الذي تترك فيه هذه السلطة لشيخ القبيلة -الذي تشتعل حوله غابة من التساؤلات وعلامات الاستفهام-، حقّ إدارة (ورواية وإخراج) الأحداث التاريخية الكبرى في تاريخ الدولة المصرية الحديثة، التي تمر في الفترة الحالية بحالة من التصاغر والتعثّر والارتباك والاستقالة من استحقاقات التاريخ والجغرافيا، أو بالأحرى إقالتها منها؛ الأمر الذي جعل سلطة هذه الدولة تهرب من ذلك كلّه للاختباء في القبيلة، ليصبح المجتمع هو القبيلة، ويعامل رئيس السلطة بوصفه شيخ القبيلة، يؤمن الناس بما يعتقده هو ويذهبون إلى الحرب إن أراد، وإلى السلام إن قرّر، على غرار ما فعل أنور السادات قبل اغتياله حين سمّى نفسه "كبير العائلة المصرية"، وهنا مكمن الخطورة الحقيقية، بالانسلاخ من حالة الدولة العادلة الجامعة للكلّ والارتداد إلى حالة القبيلة.
كان مضحكاً للغاية في تقديم الحفل عبارة "بالتعاون بين اتحاد القبائل والمجتمع المدني"، وهنا تناقض صارخ، فالمنطق يقول إن قيم القبيلة وقيم المجتمع المدني لا تلتقيان، هذا ما تجمع عليه الدراسات الاجتماعية في مدى قرون الانتقال من مجتمع اللا دولة إلى حالة الدولة، بل أنك لا تبالغ لو قلت إن هدم الدولة المدنية يتطلّب تمكين القبيلة، على نحو ما جرى في العراق من طريق الغزو الأميركي في العام 2003، الذي أشار إليه موريس غودلييه عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي في كتابه "القبائل في التاريخ وفي مواجهة الدول"، إذ عدّ أن الخطأ الكبير الاستراتيجي والسوسيولوجي للأميركيين في العراق كان إلغاء الدولة ومؤسّساتها لصالح المجموعات القبلية.
قريباً من ذلك، يذهب أستاذ علم الاجتماع بجامعة صنعاء، فؤاد عبد الجليل الصالحي، في كتابه "ثلاثية الدولة والقبيلة والمجتمع المدني"، إلى أن أهم المخاطر على تجربة اليمن والدول العربية في التعددية السياسية، عودة الشمولية من طريق المؤسّسة العسكرية أو التحالف بين الأصوليين والقبيلة والعسكر، ويقول في خلاصة بحثه أن القبيلة والقوى التقليدية الأخرى لا تبني دولةً بقدر ما تدعم سلطتها المادية والمعنوية.
وبالتالي، فإن بناء المجتمع المدني الحديث يرتبط ببناء دولة النظام والقانون، وهي الدولة التي تغيب فيها العصبويات التقليدية ويبرز فيها مبدأ المواطنة المتساوية.
أخيراً، يدرك أي مراقب للحالة المصرية من قرب (حتى من بعد)، أنه لم يعد هناك مجتمع مدني بالمفهوم الصحيح في مصر، بل إن ذلك المجتمع المدني الحقيقي متّهم طوال الوقت، من قبيلة السلطة أو سلطة القبيلة، بالعمالة والخيانة، ومن ثمّ يصبح المزج بين حالة قبائلية وحالة مجتمع مدني نوعاً من الهرج، أو هو التدليس السياسي، في دولة العرجاني.