في ظل أزمة اقتصادية خانقة، يتجه البنك المركزي المصري مجددًا إلى إصدار أدوات دين حكومية بقيمة 64 مليار جنيه مصري (حوالي 1.3 مليار دولار) لتمويل عجز الموازنة العامة المتفاقم. يأتي هذا القرار بالتزامن مع استمرار سياسة البنك المركزي بتثبيت أسعار الفائدة للمرة الرابعة على التوالي، وهو ما يعكس توجه النظام نحو الاعتماد المتزايد على الاستدانة المحلية، دون وجود استراتيجية واضحة لمعالجة جذور الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد.
تزايد الدين العام: سياسة هروب إلى الأمام
بحسب ما نشره البنك المركزي، سيتم طرح أذون خزانة يوم الأحد المقبل بقيمة 30 مليار جنيه لأجل ثلاثة أشهر، بالإضافة إلى أذون أخرى بقيمة 20 مليار جنيه لأجل تسعة أشهر. أما يوم الاثنين، فسيتم طرح سندات ذات عائد متغير بقيمة 12 مليار جنيه لأجل عامين، وسندات أخرى بقيمة ملياري جنيه لأجل ثلاث سنوات.
هذا الاعتماد المفرط على الاستدانة يشكل خطرًا متزايدًا على الاقتصاد المصري. عوضًا عن البحث عن حلول طويلة الأمد لتعزيز الاقتصاد وزيادة الإيرادات، تواصل الحكومة نهجها القائم على الاقتراض، مما يزيد من حجم الديون المتراكمة على الدولة. ويبدو أن البنوك الحكومية أصبحت أكبر ممول لهذه الديون، ما يضعف دورها في دعم الاقتصاد الحقيقي وتمويل مشروعات القطاع الخاص التي يمكن أن تساهم في تحسين معدلات النمو وخلق فرص عمل.
تثبيت الفائدة: حلٌّ مؤقتٌ يحمل مخاطر طويلة الأمد
على الرغم من تثبيت أسعار الفائدة عند مستويات مرتفعة تقارب 28.25%، وهي إحدى أعلى المعدلات عالميًا، فإن هذه السياسة النقدية لم تحقق حتى الآن الأهداف المرجوة منها. إذ إنها تزيد من تكلفة الاقتراض المحلي وتفرض على الحكومة أعباء مالية إضافية، دون أن تسهم في تحقيق الاستقرار الاقتصادي المنشود. بدلاً من ذلك، تُترك الحكومة في موقف ضعيف أمام ارتفاع الدين الداخلي، الذي يُثقل كاهل الموازنة ويزيد من مخاطر العجز المستمر في المستقبل.
وفي ظل هذه السياسات الفاشلة، يبدو أن الحكومة المصرية تسعى فقط إلى تسكين الأزمة مؤقتًا، دون معالجة الأسباب الجذرية للتدهور الاقتصادي، مثل تراجع الإنتاجية، وارتفاع التضخم، واستمرار الفساد وسوء الإدارة في العديد من القطاعات الحيوية.
العجز المالي: صورة مقلقة للاقتصاد المصري
أظهرت بيانات البنك المركزي الأخيرة أن العجز في حساب المعاملات الجارية بلغ 20.8 مليار دولار في العام المالي 2023-2024، مسجلًا زيادة ضخمة بنسبة 342% مقارنة بالعام السابق. هذا العجز المتزايد لا يعكس سوى الفشل الحكومي في إدارة موارد البلاد، ويبرز تدهور الميزان التجاري نتيجة انخفاض صادرات الغاز الطبيعي وتراجع إيرادات قناة السويس، التي كانت تعتبر في السابق أحد أهم مصادر النقد الأجنبي لمصر.
من الواضح أن تراجع الإيرادات الحكومية والاعتماد على الاستدانة بدلًا من تحفيز الاستثمارات المحلية والخارجية قد أدى إلى تعميق الأزمة المالية. ومع استمرار السياسات الحالية، من المتوقع أن يزداد الوضع سوءًا، ما يضع الاقتصاد المصري على شفا الانهيار.
إغراق البلاد بالديون: الحكومة تواصل السير في الطريق الخاطئ
سياسات الحكومة الحالية، التي تعتمد بشكل رئيسي على إصدار أدوات الدين لسد العجز المالي، لن تؤدي إلا إلى إغراق البلاد في مزيد من الديون، دون تحقيق أي تقدم اقتصادي ملموس. إذ بدلاً من معالجة الأسباب الحقيقية للأزمة، مثل تراجع الإنتاجية وغياب الاستثمارات في القطاعات الحيوية، يتم اللجوء إلى الحلول السهلة والقصيرة الأمد التي تزيد من عبء الدين وتفاقم الوضع الاقتصادي.
إن الاعتماد على الاقتراض الداخلي والخارجي بشكل مفرط يزيد من احتمال تعرض مصر لمخاطر مالية خطيرة، بما في ذلك العجز عن سداد الديون أو الاضطرار إلى الدخول في برامج قاسية مع صندوق النقد الدولي، مما يزيد من الضغط على المواطنين ويؤدي إلى مزيد من التقشف وارتفاع الأسعار.
غياب الرؤية الاقتصادية والإصلاحات المطلوبة
بالنظر إلى الأوضاع الاقتصادية الراهنة، يبدو أن الحكومة تفتقر إلى رؤية اقتصادية واضحة لإخراج البلاد من هذا المأزق. ففي الوقت الذي تعتمد فيه الدول الناجحة على تعزيز الإنتاجية وتحفيز الاستثمارات وتطوير البنية التحتية، تواصل الحكومة المصرية سياسة "الهروب إلى الأمام" من خلال الاقتراض المستمر.
ما تحتاجه مصر بالفعل هو إصلاحات اقتصادية جذرية تهدف إلى تحسين مناخ الأعمال، وتعزيز الشفافية، ومكافحة الفساد الذي يستنزف الموارد العامة. يجب التركيز على الاستثمار في القطاعات المنتجة مثل الصناعة والزراعة، وتطوير البنية التحتية بطريقة تساهم في تحسين تنافسية البلاد وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
الخطر الأكبر: مستقبل مصر في ظل استمرار هذه السياسات
إذا استمرت الحكومة المصرية في اتباع هذه السياسات، فإن الاقتصاد الوطني يواجه مستقبلًا غامضًا ومقلقًا. الاعتماد المستمر على الديون الداخلية والخارجية لن يؤدي إلا إلى تعميق الفجوة بين الإيرادات والنفقات، وزيادة الأعباء على كاهل المواطنين الذين يعانون بالفعل من ارتفاع معدلات التضخم وتدهور الأوضاع المعيشية.
في النهاية، يجب أن تتوقف الحكومة عن سياسات الاقتراض المفرط وتبني استراتيجية اقتصادية طويلة الأمد تقوم على الاستدامة، والاستثمار في المستقبل بدلاً من إغراق البلاد في ديون جديدة. الاقتصاد المصري بحاجة إلى حلول حقيقية وجذرية، وليس مجرد سياسات ترقيعية تُسكن الأزمة مؤقتًا وتؤدي في النهاية إلى مزيد من التدهور.