د. محمد حسان الطيان

ما زلت أسمع وأقرأ عن إتقان السوريين في كلِّ محلٍّ حلُّوا فيه، وكلِّ مهاجَرٍ هاجروا إليه، حتى عاينتُ ذلك بنفسي، فكتبتُ هذه الكلمة.

ما جَرَتْ بي عادتي أن أكتب عن الطعام وأصنافه، وتفنُّن الناس فيه، وإتقان المتقنين له، فليس هذا من شأني، ولا يقع في دائرة اهتماماتي، وليس ذلك ترفُّعا أو نأيًا بالنفس كما يقال، بل هو الاهتمام والميل، ولعلَّ من أسباب ذلك أني رزقت بفضل الله بزوجٍ صَنَاعٍ، حاذِقةٍ بفنون الطبخ، ماهِرة بطَهْي الطعام، وهي تتفَنَّن في ذلك حتى إنها لتبلغ الغاية في الإحسان والتجويد، شهد بذلك القاصي والداني ممن تذوق طعامها الشهي، بارك الله بها وجزاها خير الجزاء، فوجدت فيما تصنع كفايتي، فلم أمدَّ عيني إلى ما وراءه، ولله الحمد والفضل والمِنَّة.
بيد أني في رحلتي إلى بعض الولايات في أمريكا، مع زوجي وابنتي وخَتَنِي – أي صهري - وسبْطَيَّ، حفظهم ربي ورعاهم، ورضي عنهم وأرضاهم، تنقَّلتُ بين كثير من المطاعم، فما وجدت إحسانًا بلغ إحسانَ السوريين في صنع الطعام وإتقان أفانينِه.


وحسبي أن أشير إلى محلَّين اثنين استحوذا على إعجابي، وفيهما مَـنْـبَـهَــةٌ على ما وراءَهما، الأول في مدينة ديترويت بولاية ميشغان، وهو مطعم partttenz (بارتينز) وصاحبه شآميٌّ عتيق يُدعى عمّار الزين، ما سألته عن أكلةٍ شاميةٍ إلا عَرَفها، وتعهَّد بتقديمها، حتى الـ (حراق إصبعو) قدَّم لنا قصعةً منه، وقد زُيِّنت بكلِّ ما يليق بها، من كزبرة، وثوم، وبصل، وكسرات الخبز المقلي..
بل إنه قدَّم لنا طَبَقًا من المنسف الأردني حاز على إعجابنا جميعا، فضلا عن الصفيحة الشامية، واليالَنجي، والكبُّة المشويَّة، والمحمَّرة، والمسبَّحة، والبُرَك بالجبنة...  ثم ختم ذلك كله بـ (الرز بحليب) وقد خرج لتوِّه ساخنًا من المطبخ، وكان كل ذلك مُعْجِبًا مُطْرِبًا.


وزال بعض عجبنا عندما خرجت امرأته في حجابها الأنيق مرحبةً بنا، ولعلها كانت وراء كل ذلك الإحسان والتجويد، بارك الله بها وبزوجها، ورزقهما الرزق الحسن.
وأما المحلُّ الثاني الذي استولى على إعجابي فهو في مدينة شيكاغو بولاية إلينوي، واسمه: Melt n Dip  وكل ما فيه يَشِي بأنه أمريكي، بدْءًا من اسمه الإنجليزي، ومرورًا بأضوائه الملونة اللافتة للنظر، وتنوّعِ أطباق الحلوى والفواكه والمثلجات التي يقدِّمها، وغرابتِها، والتفنُّنِ في صنعها، وانتهاءً بطريقة تقديم الطلبات بواسطة الطاولات الإلكترونية (روبوت).
لكن صنفًا من الأصناف استرعى نظر ابنتي وهو (المثلجات الدمشقية)، أو ما ندعوه في الشام بــ (البوظة أو والإيمع)، وقد كتب اسمها بالإنجليزية، فكان أن طلبناها مع أطباق أخرى، فشعرنا أننا في محل بكداش بسوق الحميدية أو أبو النور رحمه الله بمسجد الأقصاب.


والحق أنه فاق ما عَرَفناه في هذين المحلَّين - أعني بكداش وأبو النور – بتفنُّنه في صناعة أصناف من الحلوى مع الفواكه والشوكولاة والمكسَّرات... زادت على الخمسين! 
ولما طلبتُ مقابلة مدير المحل تبيَّن أنه سوري أيضا! فشكرتُه على حسن صنعه وإتقانه، ودعوت له بالخير، واقترحت عليه فتح فروع أخرى لمحله؛ لِـمَا رأيت من نجاحه وإقبال الناس عليه. 
هذا كله في مجال الطعام والأكل، وأما في المجالات الأخرى فحدِّث ولا حرج، إذ لقيت من نُخَب الأطبَّاء في كل التخصصات القلبية والعظمية والصدرية والأذنية والهضمية والنفسية... ما ملك عليَّ أقطار نفسي إعجابًا واحترامًا وتبجيلًا، وقل مثل ذلك عن المهندسين والأكاديميين، والاقتصاديين والحقوقيين، والصُّنَّاع والحِرَفيين... والفضل في لقائي بكل هؤلاء ينصرف إلى ثلاثة من قدامى الأصحاب والأحباب والأصدقاء والخلَّان، هم د. عبد الفتاح الحمامي، ود. حسان الصالحاني، ود. هيثم الميداني، وقد خصُّوني بدعواتٍ وولائمَ يقام ولها ويقعد! وتذكِّر بكرم العرب الأصيل، وبحاتم وعروة والخليل...  جزى الله الجميع عني خير الجزاء، ولعلي أخصُّهم بمقالٍ آخر.

 

ما أريد أن أقوله ختامًا: 
كم من نجاحٍ صنعه السوريون حيثما حلُّوا وارتحلوا! وكم بصمةٍ خلَّفوا! وكم سماءٍ ارتقوا! وكم ثغرةٍ سدُّوا! وكم مجالٍ أثبتوا فيه أنهم أكْفَاء...
إنهم المثال الحيُّ لمن جاء في الأثر الصحيح أن الله يحبه، أعني قول النَّبِيِّ ﷺ: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِل أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ" فإتقان العمل عبادة. 
أسأل الله العظيم أن يفرجِّ عنهم كل كربٍ وبلاء، وكلَّ ضرَّاء وبأساء، أينما كانوا في الداخل أو الخارج، وفي المهجر أو في المخيمات والملاجئ... وأن يشمَلَهُم بِحِمَايَتِهِ، ويكلأَهم بعين رعايته. ويمدّهم بروحٍ منه، وأن يعيدَهم إلى بلادهم سالمين غانمين، ويزيدهم من فضله وكرمه وجوده وإحسانه.