عجيبٌ أمر الإنسان، وعجيبٌ تعلقه بقيم الحرية والعدل والكرامة، فمهما طال زمن القهر، ونشأ فى عهد الاستبداد أجيالٌ وأجيالٌ، لم يذوقوا طعم الحرية، ولم يعرفوا غير الظلم والظالمين، ولم يعيشوا إلا الاستبداد السياسى، والتمييز الاجتماعى الطبقى، وانفراد طوائف محددة بثروات الأوطان وخيراتها، ولم يروا إلا حياةً تشبه حياة العبيد. إلا أن هذه الأجيال يجرى فى دمائها عشق الحرية، والاستعداد للموت فى سبيلها! 

ترى أشواقهم حاضرة فاعلة تغمر الزمان والمكان، وعشقهم لحريتهم، وتطلعهم للعدل، وتمسكهم بكرامتهم حقائق لا تزول، ولا تتبدل. لا يمنعها بطش الظالمين، ولا إرهاب المنتفعين، ولا تخذيل اليائسين. بل تنتظر فرصةً، ولو بحجم ثقبٍ فى جدار، ويستضيئون ولو بشعاعٍ وحيدٍ فى الظلمات.

وتلك ملحمة الحرية الرائعة، وتلك رواية طلب الحق الأزلية، سردية لا تتوقف فصولها، مادام فى الأرض ظلم وظالمون، فالفطرة تأبى الرضا بالضيم والهوان، والنفس تطلب خيرها وحقوقها المشروعة. وهذا هو أساس كل ثورة، ومنبع قوة الأحرار وسر صمودهم، مهما بدا ضعفهم للظالم المستبد، الذى لا يفهم هذه القيم لغبائه، ولا يشعر بتلك المعانى لسفالته، ومن هنا يأتى الصدام.

وكانت رابعة وأخواتها فصلًا فى هذه الملحمة، لم تتخلف عن مثيلاتها فى كل مكان وزمان علا فيه الاستبداد والاستعباد، ولم تكن بِدعًا من أشواق الفطرة الإنسانية لنيل حقوقها، ولم يكن مستغربًا استعداد الإنسان للتضحية بحياةٍ ذليلةٍ مظلمةٍ مظلومةٍ، وسعادته للموت فى سبيل حقوقه، وطلبه للحياة التى يستحقها، مستمتعاً بإنسانيته فى صفائها وتجردها، رافضًا للظلم كله، والإهانة فى كل صورها.

كانت رابعة وأخواتها من ميادين الحرية والحق، والإنسانية والعدل، والشجاعة والتضحية، ومواجهة الغطرسة والاستبداد، وإعلان الموقف الوطنى الحر صيانةً للأوطان التى غرقت تحت أقدام العسكر الغاشمين، الذين نهبوا ثرواتها، وضيعوا مقدراتها، وخربوا مستقبلها، وكبلوها بالديون، وأضاعوا مياه نيلها، وقزموا مكانتها بين الأمم، وأفقروا أهلها، وشجعوا المجرمين المخربين فى كل مجال. كانت وقفات الأحرار فى ميادين التضحية والحرية جهادًا بما يملكون، بل، بكل ما يملكون، فمنهم من قدم حياته شهيدًا، ومنهم من قدم حياتًا معتقلًا، ومنهم من قدم حياته مطاردًا. 

كانت رابعة ميدانا تحركت فيه همم وقوى المخلصين من أبناء الوطن للدفاع عن اختياره وحريته ومكتسبات ثورته المجيدة- ثورة يناير الشريفة، ووفاءً لدماء الأبرار الأطهار التى كانت وقودًا لهذه الثورة المباركة الشريفة. كما كانت معلمًا إنسانيًا بامتياز، انتصرت فيها الإنسانية، وتداعى للحق ونصرته طوائفُ الأحرارِ فى بقاع الأرض، ومن مختلف الأعراق والهويات، تدعم وتناصر، رأينا الإنسان ينتصر للإنسانية، للحق للحرية.

إنه لشرف عظيم وفخر كبير أن ينتسب إلى هذا المجد وتلك الملحمة إنسان، أن يكون من أبناء الوطن الأحرار، وفى هذا الجانب الكريم، مشاركًا أو داعمًا، بل، الشرف كل الشرف والفخر كل الفخر لهؤلاء وحدهم. فليس لمن يعاديهم إلا العار، والذل، ليس لمن اختار لنفسه أن يكون من الظالمين المعتدين أعداء الحق والحرية- مشاركًا، أو داعمًا أو مؤيدًا- ليس له من الإنسانية حظً، ولا نصيب.

وكانت رابعةً- كذلك- ميزانًا كاشفًا، ومرآةً فاضحةً أظهرت حقيقة المجرمين المفسدين، وبينت أركان الاستبداد والاستعباد، من عسكر لا يقبلون إلا الاستبداد بحكم البلاد، وزمرة آثمة تنتفع منه وتؤيده وتبيع كل شئ فى سبيل ذلك! كشفت رابعة وأخواتها حقيقتهم، فظهرت قذارة بعضالإعلاميين وإجرامهم، وافتضح رجال المال المنتفعين، وتكشف انحراف الشرطة، وظهر للعيان فساد الفاسدين من أهل القضاء وخنوعهم. ولولا وقفة الأحرار فى تلك الميادين ما ظهرت حقيقة هؤلاء المجرمين. وهذا أول طريق الحرية واستعادة الحقوق، أن تتميز الصفوف، وتزول الأقنعة.فيتضح لكل ذى عينين فريق الوطنيين الأحرار، الذين يضحون بكل شئ فى سبيل وطنهم وحريته، وفريق المفسدين المجرمين المنتفعين.

فقد كان حزب الشيطان أعداء الحياة وأعداء الحقوق، بل أعداء الإنسانية يراهنون على خنوع الشعب، ورضاه بالأمر الواقع، وتراجعه عن مطالباته بحقوقه التى جسدتها ثورة يناير المجيدة، فإذا بطوفان الأحرار الرجال يعلنون عزمهم مواصلة المسير، ثابتين واعين، لا يستجيبون لاستفزاز، ولايقبلون الضيم، قضيتهم قضية حق وعدل، قضية وطن ومستقبله، لا يتنازلون ولا يساومون. يعلمون يقينًا أن طريق الحرية مفروش بالدماء، طويل، صعب إلا على هذا النفر من الأحرار الذين يستعذبون الموت فى سبيل حريتهم وحقوقهم، فلم يتعجلوا نتيجة، ولم يتوهموا نصرًا قريبًا، ولن يخذلهم الله.

فهنيئًا لمن كان حرًا، مدافعًا عن حريته، هنيئًا لمن استمسك بحقوقه، وضحى من أجلها، هنيئًا لمن عاش لمبادئه، ومات عليها، واعتقل فى سبيلها، وطورد من أجلها، وأوذى فى نفسه وأهله وماله.هنيئًا للثابتين، للشهداء، للأحرار. هنيئًا لهؤلاء الذين يثبون للدنيا كلها أنه مازال فى الناس أبطال كرام يستحقون الحياة، بحرية وكرامة، تحققت فيهم معانى الإنسانية الرائعة. يستحقون أن يقتدى بهم الأحرار.