أحمد صادق

كاتب صحفي 

 

هناك منعطفات كثيرة في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وخاصة في الهجرة النبوية، ولكن لداعي عدم التطويل نود أن نركز على أهم النقاط في هذا الحدث المهم فيما يلامس ويترجم واقع عالمنا الإسلامي المعاصر.

 وتتوالى الأزمات والشدائد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وبعد اسلام العديد من الناس في مكة وجههم النبي صلى الله عليه وسلم لأن يهاجروا إلى بلاد الحبشة لأن ملكها رجل عادل وعنده علم من الكتاب ليعيشوا في كنفه بعيدًا عمن حرموهم كل الحقوق.  وتوجهوا إلى الحبشة، ولكن لم تتركهم قريش في حالهم حتى في بلاد الحبشة، بل ذهبت لتحرض عليهم قيادات الحبشة وملكها لينالوا منهم وهذا شأن التحالفات والملاحقات الظالمة عبر المصالح الضيقة.

وكان واقعنا المعاصر يترجم هذه الأحوال كما يحدث مع المسلمين اليوم في العديد من بلدان العالم، فنرى التحريض عليهم، وتوجيه الاتهامات لهم، في حين يفعل العديد من دول الظلم والطغيان الكثير من انتهاك للقوانين والحقوق والأعراف الدولية ولكن لا أحد يتكلم "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" (الأنفال: 30). ولله در الشاعر حينما قال:

       فاحذر دسائسهم ولا تسمع لهـم *** إن قدموا للمشكلات حلــولًا

       فلربّ نصح قدموه إليك قـــد *** شاءوا به التمويه والتضليـلا

       والغمدُ يعجبنا بحسن نقوشــه *** لكن فيه من السيوف صقيـلًا

وتروى أم سلمة رضي الله عنها قصة معاناتهم وحياتهم في الحبشة وملاحقة أهل مكة لهم هناك: "لما نزلت أرض الحبشة جاورنا بها خير جار، النجاشي. أمِنا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى، ولا نسمع شيئًا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشًا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدمًا كثيرًا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقًا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص ثم إنهما قدما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك، أنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشيرتهم، لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي فقالت بطارقته حوله:

صدقًا أيها الملك قومهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم. فغضب النجاشي ثم قال: لاها الله إذن لا أسلمهم إليهما ولا يكاد قوم جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوراهم ما جاوروني، قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم. فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض، ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائنًا في ذلك ما هو كائن، فلما جاؤوا، وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم فقال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في ديني ولا دين أحد من هذه الملل؟ فكان الذي كلمه جعفر بن أبى طالب، فقال له:

أيها الملك كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد من دونه، من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام- قالت: فعدد عليه أمور الإسلام- فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئًا، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا.

فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث. فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.

فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟

فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشي: فاقرأه عليّ، فقرأ عليه صدرًا من (كهيعص) فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة. انطلقا. فوالله لا أسلمهم إليكما ولا يكادون.

قالت: فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدًا بما أستأصل به خضراءهم، فقال له عبد الله بن أبي ربيعة - وكان أتقى الرجلين فينا - لا تفعل فإن لهم أرحامًا وإن كانوا قد خالفونا. قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد ثم غدا عليه من الغد فقال له: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولًا عظيمًا، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه.

فأرسل إليهم ليسألهم عنه. قالت: ولم ينزل بنا مثلها قط. فاجتمع القوم ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا نقول والله ما قال الله، وما جاءنا به نبينا، كائنًا في ذلك ما هو كائن.

فلما دخلوا عليه قال لهم: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم، يقول: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.    

فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عودًا، ثم قال: والله ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العود.   

فتناخرت بطارقته حول حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لي دبرًا من ذهب وإني آذيت رجلًا منكم، ردوا عليهم هداياهما فلا حاجة لي بها.

قالت: فخرجا من عنده مقبوحين، مردودًا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار.

قالت: فوالله إنا لعلى ذلك إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه. فوالله ما علمنا حزنًا قط. كان أشد علينا من حزن حزناه عند ذلك، تخوفًا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه، وسار إليه النجاشي وبينهما عرض النيل، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رجل يخرج حتى يحضر وقيعة القوم، ثم يأتينا بالخبر؟ فقال الزبير بن العوام: أنا. قالوا: فأنت. وكان من أحدث القوم سنًا. فنفخوا له قربة فجعلها في صدره، ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم قالت: فدعونا للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكين له في بلاده. فوالله إنا لعلى ذلك متوقعون لما هو كائن، إذ طلع الزبير وهو يسعى، فلمع بثوبه وهو يقول: ألا ابشروا فقد ظفر النجاشي وأهلك الله عدوه، ومكّن له في بلاده، واستوسق عليه أمر الحبشة: وكنا عنده في خير منـزل، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة(1).

وفي رواية أم سلمة رضي الله عنها دروس وعبر، فهذه الهدايا والرشاوى التي تقدم من اللئام للظلاّم على حساب المستضعفين لهي صفقات يُراد بها التحالف من أجل إنزال الأذى بالمسلمين، وكثير من الأحلاف الحالية التي تريد تحت مسميات خاصة لمحاربة كذا وكذا، أن تنـزل بالمسلمين ومن عاونهم الأذى وبصور عدة.

ولكن على المسلمين أن يستفيدوا من كل نظام أو حاكم حتى ولو غير مسلم أن يساعدهم فذلك خير استثمار لجهوده في الخير وهذا ما كان من المسلمين مع النجاشي. فأي شيء أيضًا ممكن الاستفادة منه فلا مانع أن نتعامل معه سواء قوانين أو معاهدات دولية أو اقليمية حتى نستفيد منها فلا بأس. كما قال صلى الله عليه وسلم عن حلف الفضول حينما ذكر عنده "ذلك حلف لو دُعيت إليه في الجاهلية لأجبت".     

وأيضًا لا بد أن يتقدم لمخاطبة الملوك والمسئولين الكبار والمجتمع الدولي باسم جميع المسلمين من هو أهل لذلك، بحيث يقيم الحجة ويزيل الشكوك عن المسلمين. وفي جميع المستويات وسائر المنتديات، ولقد قدم لنا جعفر بن أبى طالب نموذجًا طيبًا في علمه وأسلوبه في المحاورة في تلك المناظرة الصعبة والعسيرة التي دارت أمام ملك الحبشة.

فلا بد أن نرقى إلى أعلى المستويات في الخطاب الإعلامي والسياسي والثقافي والاجتماعي عبر الوسائل المختلفة وفيما يتوافق مع متطلبات العصر.   

إن كل النقاط التي أثيرت عن الإسلام - أمام ملك الحبشة - هي نقاط التقاء بين النصرانية والإسلام، بينما أغفلت لحد ما نقاط الخلاف. والدبلوماسي والسياسي المسلم هو أحوج ما يكون ليفقه هذه الدروس في المفاوضات. وهي خطوط عامة في أي لقاء أو حوار مع أية جهة أو قيادة سياسية معادية(2).

مع ملاحظة عدم المساومة على العقيدة وعدم الحياد عنها ولو بفقد الحياة كرامة لعقيدة التوحيد "ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصلّه جهنم وساءت مصيرًا" (النساء: 115).

.....................................

الهوامش:

(1)   السيرة النبوية لابن هشام، جـ1، ص 334-338.

(2)   د. منير الغضبان، المنهج الحركي للسيرة النبوية، جـ1، ص 96.