الشيخ محمد الغزالي
قال ابن عطاء الله السكندري: (من علامة اتباع الهوى المسارعة إلى نوافل الخيرات، والتكاسل عن القيام بالواجبات).
أقول: الفروض التي يجب أداؤها كثيرة ومنوعة، وهي في العبادات محدودة كمًّا وكيفًا، ولكنها في العادات مفتوحة الدائرة متطورة الأداء.
والمسلم مطالب بكل الواجبات التي ارتبطت بعنقه، ولا يجوز أن يوجه نشاطه إلى نافلةٍ ما، قبل أن يستكمل هذه الواجبات أولا.
إن الواجبات والنوافل أشبه بالضرورات والمرفهات، والمرء لا يشترى لنفسه عدة زجاجات من العطور وهو وأهله بحاجة إلى أرغفة من الخبز، سد الجوع أولى من هذه الزينات.
وقد رأيت ناسا من أهل الدين يذهلون عن هذه الحقيقة، وحكى لي أحدهم أنه حَجَّ عدة مرات، وهو بسبيله إلى حجة جديدة، لن تكون الأخيرة.
وهذا خطأ؛ فلو أنه بعد حجة الفريضة تأمل فيما عليه من فروض أخرى، ولو أنه تتبع الثغرات التي شاعت في مجتمعنا وعمل على سدادها لكان أدنى إلى الصواب، وأقرب إلى مرضاة الله، وأبعد عن أهواء النفس.
إن نفقات حجة واحدة من هذه النوافل تكفى لدفع نفقات الدراسة لنفر من الطلاب الفقراء، وهم أوْلى، وتكفى لرفع الحجز عن أمتعة نفر من الغارمين المعسرين، وهم أوْلى، وتكفى لطبع بعض الكتب الدينية وتوزيعها بالمجان وذاك أجدى.. إلخ.
إن إنقاذ أمتنا من الجهل والفقر أوجب من إشباع رغبة نفسية في متابعة الحج والعمرة، هذه فريضة وتلك نافلة.
بل لو أن الحاج كان تاجرا، واستغل المال في توسيع تجارته لدعم الاقتصاد الإسلامي، واغلاق الأبواب أمام الاقتصاد الأجنبي لكان ذلك أحق من بذل المال في التطوع بحج أو عمرة.
ذلك أن الجهاد الاقتصادي صنو الجهاد الحربي، بل إن لقاء العدو في ميدان الدم يجيء مرحلة أخيرة بعد كفاح طويل في عالم المال والمعرفة والدعاية والبذل.
وتنظيما للعلاقة بين الفرائض والنوافل روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حجة لمن لم يحج خير من عشر غزوات، وغزوة لمن قد حج خير من عشر حجج".
وقد أبنا فيما كتبنا أن الجهاد الحربى حلقة من سلسلة بها حلقات أخرى من غزو اقتصادي وثقافي لا تقل خطرا عن نظائرها.
إن أصحاب البصر السديد من العلماء يضعون الحدود مكبرة بين الفروض والنوافل حتى لا يقع المسلم فى تقصير مخل وهو يحاول إرضاء الله بعمل لم يوجبه عليه.
وابن عطاء الله يعد من إتباع الهوى إيثار نافلة خير على واجب قائم.
وقد رأيت بعض الصالحين يصومون يومى الاثنين والخميس ويجتهدون في التقرب إلى الله بهذا العمل الكريم.
والصيام قربة لا ريب فيها وجهاد نفس نبيل، ولكنى أحب أن أنظر إلى الموضوع على ضوء الموازنة بين الفرض والنفل.
فمن صام رمضان فقد أدى الفريضة، فإن كان صيام أيام أخرى سيوهن قواه عن العمل فى المدرسة، إن كان مدرسا، أو العمل فى الديوان إن كان موظفا، فالفطر أولى به.
لأن هذا التنفل سيعجزه عن القيام بفريضة تعليم التلامذة، أو يعجزه عن القيام برعاية مصالح الجمهور، وكلا العملين فريضة بالنسبة له.
ولماذا يجهل بعض الناس أن ما وكِّل إلى ذممهم من أعمال عامة أو خاصة هو مجال خصب لكسب رضوان الله وغفرانه؟
لقد كنت ألحظ ـ بِأسَى ـ أن بعض الأطباء يحب أن يعظ الناس فى المساجد!
لماذا؟ إن الكشف الدقيق على مريضه هو العبادة الأولى المطلوبة منه، ولا يغني عن هذه العبادة أن يجيد بعض خطب أو يطيل بعض ركعات ـ عدا الصلوات المكتوبات.
إن صلاته بعد الأوقات الخمس هى علاجه المرضى واستكشاف عللهم، وتيسير الشفاء لهم بكل ما هنالك من وسائل.
لقد قلت: إن الفروض كثيرة، وإذا كانت محدودة فى ميدان العبادات فهى مطلقة فى الميادين الأخرى، وأمتنا فقيرة إلى الجد في الميادين كلها وإلا جثت على ركبتيها أمام أعدائها.
ولذلك يجب أن تنظم جهود العابدين، حتى لا تقل فى ناحية وتكثر فى ناحية أخرى. ويجب إبراز الفروض أولا حتى لا تضطرب الأوضاع وتختل الموازين وتتبدد الجهود هباء.
..........

من كتاب: الجانب العاطفي من الإسلام