يعاني القطاع الخاص من أزمات جعلته عاجزًا عن مقاومة الأزمات الاقتصادية المتسارعة والتي جعلت منه صورة مصغرة من القطاع العام الذي تهالك وتردى حتى قررت الدولة التخلص منه، في ظل تهميش مستمر لصالح شركات الجيش، ومع تغول شركات خليجية وعالمية على أهم قطاعات وأعمال السوق بكافة قطاعاته.

وقالت شركة "ستاندرد أند بورز جلوبال"، الأربعاء الماضي، إن نشاط القطاع الخاص غير النفطي في مصر سجل أكبر انخفاض له منذ عامين خلال يونيو الماضي، إذ شهدت شركات القطاع الخاص تراجعًا في الطلب بسبب الارتفاع الحاد في الأسعار، وانخفاض سعر الجنيه، ونقص الموارد.

وانكمش النشاط التجاري بأسرع وتيرة له منذ الموجة الأولى لتفشي جائحة "كوفيد-19" ليتراجع إلى 45.2 في يونيو الماضي، من 47.0 في مايو الماضي.

في الوقت نفسه، أشارت أحدث بيانات صادرة عن دراسة "مؤشر مدراء المشتريات" إلى أسرع ارتفاع في تكاليف مستلزمات الإنتاج فيما يقرب من 4 سنوات، مما أدى إلى تسارع ملحوظ في معدل تضخم أسعار البيع.

ومع انخفاض الأعمال الجديدة بشكل حاد، والتقارير التي تفيد بأن الظروف الجيوسياسية المعاكسة قللت من توافر السلع الأساسية، قللت الشركات بشكل كبير من نشاطها ومشترياتها من مستلزمات الإنتاج، وفق الدراسة.

وانخفض اثنان من أكبر مكونات مؤشر مدراء المشتريات، وهما مؤشرا الإنتاج والطلبات الجديدة، إلى أدنى مستوياتهما منذ الربع الثاني من عام 2020 في يونيو الماضي، مسجلين تقلصات ملحوظة في كل من النشاط والمبيعات.

وشهد ما يقرب من ربع الشركات التي شملتها الدراسة انخفاضًا في أحجام الطلبات الجديدة خلال فترة الدراسة الأخيرة، وسط إشارات عديدة إلى انخفاض في طلب العمال بسبب ارتفاع الضغوط التضخمية.

وسجل تراجع المبيعات بشكل أكثر وضوحًا في قطاعي التصنيع والجملة والتجزئة، مع انخفاض قوي أيضًا في قطاع الخدمات، لكن على النقيض من ذلك، شهد قطاع الإنشاءات الاقتصادية استقرارا أكثر، مع نمو الإنتاج والطلبات الجديدة بشكل هامشي.

وفي تعليقه، لفت الباحث الاقتصادي في "ستاندرد أند بورز جلوبال" ديفد أوين، إلى أن "الانخفاض الحاد في معدل الطلب سببه ارتفاع التضخم وتشديد السياسة النقدية، حيث أدى قرار البنك المركزي في مايو الماضي بخفض قيمة الجنيه مقابل الدولار، إلى زيادة تكلفة استيراد السلع".

وتابع: "كما ظلت ظروف الإمداد سيئة وزادت من الضغوط التضخمية، حيث أشارت الشركات إلى أن إمدادات المواد الخام أصبحت أكثر صعوبة بشكل متزايد، وإلى جانب الانخفاض الحاد في الإنتاج، استجابت الشركات بخفض مشترياتها إلى أقصى حد منذ إبريل 2020".

أزمات وعوائق

تلك البيانات، تأتي في ظل شكاوى دائمة من تهميش القطاع الخاص وتقليص أعماله بمقابل زيادة أعمال شركات الجيش والشركات التابعة لجهات سيادية.

وهو ما عبر عنه الملياردير نجيب ساويرس في نوفمبر الماضي، بحديثه لوكالة "فرانس برس"، منتقدًا مزاحمة شركات الجيش والحكومة القطاع الخاص، وتعرضه لما أسماها "منافسة غير عادلة".

وفي جانب ثان، تعاني الشركات المصرية الخاصة مع قرارات حكومية تزيد من أعبائها مثل رفع قيمة الدولار الجمركي من 17 جنيهًا لعدة سنوات إلى 18.64 جنيهًا، وكذلك فرض الرسوم والجمارك والضرائب.

وفي 7 يونيو الماضي، وافق مجلس النواب، على قرار قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي رقم 218 لسنة 2022، بإصدار التعريفة الجمركية، والذي يقضي بزيادة الضريبة الجمركية للعديد من السلع المستوردة.

وفي السياق، تعاني شركات القطاع الخاص من أزمات كبيرة في الحصول على العملات الصعبة لتوفير مستلزمات الإنتاج والقيام بعمليات الاستيراد أو شراء قطع الغيار، إذ تضع البنوك شروطًا قاسية لفتح الاعتمادات المستندية، ما يدفعها لشراء الدولار من السوق السوداء.

ومنذ خفض البنك المركزي في 21 مارس 2022، سعر الجنيه المصري مقابل الدولار بنحو 14%؛ زاد سعر الدولار ليصل مستوى قياسًيا جديدًا الأربعاء بلغ نحو 18.90 جنيها للبيع من نحو 15.65، فيما يباع الدولار بالسوق السوداء بأعلى من ذلك بكثير.

وفي ظل قرارات التخصيص بالأمر المباشر التي تفاقمت مع الانقلاب العسكري منتصف 2013، وتعاظم كعكة شركات الجيش والجهات السيادية؛ قلت بالتالي نسب حصول القطاع الخاص على الأعمال الحكومية وظل دورها كمنفذ تابع لجهة أعلى تتحكم في أعماله وموارده.

وفي جانب آخر، تتزايد صعوبة مهمة الشركات الخاصة مع مواصلة الشركات الخليجية سيطرتها على قطاعات واسعة من الاقتصاد، لما يوجد بينهما من فرق إمكانيات وإدارة وسيولة وفرق في التسهيلات الحكومية الممنوحة لكل منها.

وكان صندوق النقد الدولي قد أكد في 27 فبراير 2022، على دور القطاع الخاص في تعزيز الاقتصاد المصري، الذي يواجه تحديات وصعوبات خارجية وداخلية، مطالبًا الدولة بأن تسانده وتكون مكملة له.

وسجل نشاط القطاع الخاص غير النفطي في مارس الماضي، انكماشًا بأسرع وتيرة له منذ الأشهر الأولى لجائحة فيروس كورونا، إذ أثرت تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا على الأعمال وتسببت في رفع الأسعار.

وإزاء ذلك الوضع تتوجه حكومة الانقلاب بحسب ما أعلنته ضمن ما يسمى "وثيقة ملكية الدولة" التي نُشرت مؤشراتها في يونيو الماضي، إلى زيادة نسبة القطاع الخاص في الاقتصاد من 30% حاليًا إلى 65% في 3 سنوات، وهي الرؤية التي يشكك خبراء في تنفيذها، خاصة في ظل تغول القطاع الخاص غير المصري.

"سيطرة الجيش"

وفي تقديره لأسباب ذلك الوضع وخطورة المؤشرات السابقة على القطاع الخاص، قال الخبير الاقتصادي علي عبد العزيز: "لا شك أن الاقتصاد المصري بشكل عام يعاني منذ سنوات بسبب سيطرة الجيش على العديد من القطاعات ومنافسته الشديدة للقطاع الخاص".

وأضاف "قبل القول إن المتغيرات العالمية الجديدة كجائحة (كورونا)، وحرب أوكرانيا، وارتفاع أسعار الطاقة، واضطراب سلاسل التوريد العالمية؛ علينا أن نقولها صراحة أن الجيش ومندوبه السيسي بقصر (الاتحادية) يعادون القطاع الخاص".

ولفت الأكاديمي الاقتصادي، لفت إلى أنهم "يسعون منذ 2013، للسيطرة على كل المشروعات الناجحة ليحصدوا وحدهم الأرباح، وبالتالي تمتلئ حساباتهم الخارجية بمليارات الدولارات".

"أسباب أخرى"

"إذا عدنا للأسباب الأخرى والتي يتحملها أيضًا النظام فهي التوسع بالقروض وإهدار مليارات الدولارات (400 مليار دولار على البنية التحتية) والتي يحتكر تنفيذها أيضًا الجيش؛ فنجد أنفسنا أمام معضلة توفير الدولار لتلبية احتياجات القطاع الخاص من خامات ومستلزمات ومكونات إنتاج".

ويرى عبد العزيز، أنه "وبالتالي وضع النظام قيودا على الواردات كشرط الاعتماد المستندي وعدم السماح بتغطية الاعتمادات حتى بعد تغطيتها بالدولار"، موضحا أن "الرقم المقدر منذ فبراير الماضي، لطلبات الاستيراد المتوقفة يزيد عن 20 مليار دولار".

"وذلك مع انخفاض الأصول الأجنبية بالقطاع المصرفي والتي وصلت سالب 305 مليارات جنيه، وفي ظل التزامات خارجية قد تتجاوز 15 مليار دولار خلال العام المالي الجديد، وفي ظل ارتفاع الأسعار العالمية والمحلية، وتوقف العديد من الشركات والمشروعات".

وأكد أنه "من الطبيعي أن ينكمش النشاط التجاري ونقترب من مرحلة ركود مع توقعات بارتفاعات جديدة للدولار، واستمرار لسياسات تقليص الواردات؛ وهو ما سينعكس حتمًا على التضخم ومعدلات التشغيل والصادرات، وهذا يوضح مدى خطورة الوضع الحالي للاقتصاد".

"فرص الإنقاذ"

وعن طرق إنقاذ القطاع الخاص في ظل تهميش وبيع القطاع الحكومي وقطاع الأعمال العام، يعتقد عبد العزيز، أن "إنقاذ القطاع الخاص يحتاج إلى مناخ سياسي جديد، ونظام ديمقراطي يحترم أولويات الشعب، ويحقق التوازن بين السلطات، ويحد من تدخل الجيش والأجهزة الأمنية بالاقتصاد"، وفقًا لـ"عربي 21".

وأضاف: "ثم يأتي دور السياسات النقدية والمالية المحفزة للقطاع الخاص من خلال رسم أولويات الاستيراد واستبدال ما يمكن منها بإنتاج محلي وتشجيعها على التصدير".

وأكد أن "هذا لا يتم إلا برؤية مالية جديدة تقلل الأعباء المالية، وتوجه إنفاقات الدولة باتجاهات دعم الصناعة والزراعة والإنتاج بشكل عام"، متوقعا أن "ينعكس ذلك على زيادة موارد الدولة ومعدلات الفقر والتشغيل وتوافر الدولار".

"السياسات المحلاة"

وفي رؤيته أشار الخبير الاقتصادي، حسني كحله، لخطورة تراجع القطاع الخاص المصري على اقتصاد البلاد، لكنه في الوقت ذاته أكد أن "تهميش دور الدولة ليس في صالح نشاط القطاع الخاص"، في إشارة لضرورة تكامل القطاعين لصالح الاقتصاد والبلد والمواطن.

وأكد أن كل ما ذكرته تلك المؤشرات عن تداعي القطاع الخاص وأزماته "هي تداعيات طبيعية، نتيجة لاتباع (الحكومة) السياسات الاقتصادية المحلاة من صندوق النقد الدولي".

الباحث في الاقتصاد السياسي يرى أن الحل لكي يستعيد القطاع الخاص المصري دوره بعدما فقد القطاع العام دوره وجرى بيعه، "غير موجود"، موضحًا أن "تلك الدورة التي يعيشها الاقتصاد المصري ستأخذ مداها وبعد تعاظم ردود الفعل؛ سيأتي الحل".

وعبر صفحته بـ"فيسبوك"، رصد الخبير الاقتصادي، إبراهيم نوار، تدهور نصيب القطاع الخاص من الاستثمارات الجديدة في مصر في 10 سنوات وتراجعه من 64% في 2011/2012، إلى 26% عام 2020/2021.

وتحدث عن أصل الأزمة مؤكدًا أن "الدولة تتوسع على حساب القطاع الخاص، والمنافسة تنكمش مقابل الاحتكار، والسوق تنزوي في ركن ضيق أمام تغول الحكومة وإدارة الاقتصاد بالأمر المباشر".