بقلم: سعيد الحاج

 

بداية الشهر الجاري، نشر موقع "فورين بوليسي" (Foreign Policy) الأميركي مقالا تطرق إلى الوضع الصحي للرئيس التركي، مدعيا أنه قد يكون عاجزا عن الاستمرار في حكم تركيا ما بعد 2023 لأسباب صحية، وباحثا في من اعتبرهم خيارات بديلة بعده. وهو مقال أثار العديد من التساؤلات حول مضمونه وتوقيته والرسائل التي يتوخاها ودلالات بعض التفاصيل التي أوردها.

 

خليفة أردوغان

 

في الأول من أكتوبر الجاري، نشر الباحث في شؤون الشرق الأوسط ستيفن كوك مقالا في فورين بوليسي بعنوان "أردوغان قد يكون مريضا جدا ليستمر في رئاسة تركيا".

 

وادعى كوك في المقال إن مشاكل أردوغان بخصوص الانتخابات المقبلة عام 2023 تتخطى تراجع شعبية حزبه في السنوات الأخيرة وخسارة بعض البلديات المهمة -مثل إسطنبول وأنقرة في الانتخابات البلدية الأخيرة- لتصل إلى حد التشكيك بقدرته على مواصلة الحكم أو بالأحرى القدرة على الترشح للانتخابات المقبلة، لأسباب صحية.

 

ويتطرق المقال إلى بعض الأحداث التي يرى أنها ترفع علامات استفهام حول الوضع الصحي للرئيس، مثل مشيه بصعوبة، أو اتكائه على شخص آخر خلال صعود السلم، أو تلعثمه في الحديث، في مناسبات متفرقة خلال الأشهر الفائتة.

 

ورغم إقرار الكاتب بعدم إمكانية الثقة والبناء على هذه "المعلومات" أو القرائن، فإنه يرى أنها مع بعضها بعضا تصلح أرضية للتساؤل حول مستقبل الرئيس التركي بعد 19 عاما من حكم تركيا بشكل متواصل.

 

وسريعا، ينتقل كوك للحديث عن "مرحلة ما بعد أردوغان" والشخصيات "القوية" المرشحة لخلافته، مقدما 3 منهم على الباقين وهم: وزير الداخلية سليمان صويلو، ووزير الدفاع خلوصي أكار، ورئيس جهاز الاستخبارات حاقان فيدان. ويرى كوك أن صويلو بات رهانا خاسرا بعد تسريبات رجل المافيا الهارب سادات بكر، وأن فيدان يفضل البقاء خلف الأبواب المغلقة، مما يجعل أكار المرشح الأبرز والأقوى لخلافة أردوغان.

 

وهنا، ينتقل الكاتب إلى شرح أسباب تفوق أكار على صويلو وفيدان، وفي مقدمتها دعم المؤسسة العسكرية له، ليس فقط لخلفيته العسكرية ورئاسته أركان الجيش سابقا، ولكن أيضا لأنه مسؤول عن إعادة هيكلة القوات المسلحة بعد الانقلاب الفاشل عام 2016، وعن ترقية معظم الضباط في المؤسسة العسكرية خلال السنوات الأخيرة مما يجعل "ولاءهم له"، وفق الكاتب.

 

ويختم كوك مقاله بأن النظر في واشنطن إلى أكار على أنه "براغماتي، ويمكن العمل معه" ليس تفكيرا غير عقلاني، لكنه يحذر من أن أكار من الخلفية الأيديولوجية نفسها لأردوغان، ومسؤول عن التوتر مع اليونان في شرق المتوسط، فضلا عن أنه يمثل تيارا معاديا للغرب في المؤسسة العسكرية التركية، على حد قوله.

 

دلالات

 

كان لافتا أن المقال قَبِلَ الأحداث التي ذكرها في سياق المرض رغم أن لها تفسيرا أكثر منطقية وهو الإرهاق، ثم بنى كامل النقاش على هذه الفرضية، لكنها لم تكن الدلالة الوحيدة ولا الأهم في المقال.

 

ففي المقام الأول، هناك دلالة متعلقة بالموضوع نفسه، أي فكرة نقاش صحة الرئيس التركي والادعاء بأنه قد لا يكون قادرا على الترشح لانتخابات 2023 والاستمرار في حكم تركيا بعدها. وثمة دلالة أخرى تتعلق بالتوقيت والسياق، أي الخلافات التركية الأميركية التي تفاقمت مؤخرا ودفعت أردوغان إلى سلسلة من التصريحات السلبية تجاه إدارة بايدن على وجه التحديد. وهناك كذلك دلالة ثالثة تتعلق بموقع المقال، فورين بوليسي، خاصة أنه لم يكن المقال الوحيد في هذا الإطار، فقد نشر الموقع نفسه مقالا ثانيا بعد الأول بـ4 أيام يرى فيه أن "وريث أردوغان ليس مشكلة"، قاصدا خلوصي أكار.

 

ويبدو أن كواليس العاصمة التركية قد أخذت هذه الدلالات على محمل الجد، من باب أنها قد تعبر عن توجه ما في واشنطن أو تسعى لخلق هذا التوجه، على أقل تقدير. إذ نشر الرئيس التركي -على حسابه على تويتر- مقطع فيديو له وهو يمارس لعبة كرة السلة، بعد يومين فقط من نشر المقال، مشيرا إلى "حرصه على ممارسة الرياضة 3 مرات أسبوعيا"، تأكيدا -فيما يبدو- على صحته ونشاطه.

 

ومما يعزز هذه الدلالات أن المقال لم يكتف بطرح علامات استفهام حول صحة أردوغان، وإنما انطلق ليناقش المرشحين المحتملين لخلافته، ومناقشة ذلك بالتفصيل، ثم تفضيل أحدهم أو ترجيح كفته.

 

ومن اللافت كذلك أن المقال يلمح إلى إمكانية أن يخلف أردوغان "رجل قوي آخر، ربما تحت بند قانون الطوارئ" وليس في سياق انتخابات عادية، ولذلك فقد رشح لذلك 3 شخصيات أمنية عسكرية، كما سلف ذكره. وهو أمر يعكس -فيما يبدو- ازدواجية المعايير الأميركية والغربية عموما حين يتعلق الأمر بطرف يعدونه خصما أو -على الأقل- لا يدور في فلكهم بشكل كامل.

 

ولعل الدلالة الأخيرة هي ترجيح كفة وزير الدفاع خلوصي أكار على الاثنين الآخرين لأسباب سبق تفصيلها. وهو أمر تزداد أهميته بالنظر إلى المقال الآخر الذي أشرنا إليه (كاتبه خليل كارافلي) والذي رأى أن أكار "قومي مخلص، لكن ذلك لا يعني أنه معاد للغرب"، فيما بدا وكأنه تسويق للرجل أو محاولة لإقناع صناع القرار في الغرب بأنه الخيار الأفضل لهم.

 

مشكلة العدالة والتنمية

 

بغض النظر عن نية الكاتب ومدى تعبيره عن توجه ما لدى الإدارة الأميركية، إلا أنه من الواضح أن العلاقات التركية الأميركية مؤخرا "لا تبشر بخير" ولا تسير على ما يرام، وفق تعبير أردوغان نفسه. كما أنه من اللافت أن مقالات أو تصريحات تتعلق بصحة أردوغان وفرصه في الانتخابات المقبلة أو أي منهما صدرت كذلك عن بعض الكتاب الروس.

 

وبعيدا عن فكرة الضغط على أردوغان الحاضرة بهذا الأسلوب، إلا أن اللافت أن العيون الخارجية لا ترى مرشحا قويا يخلف أردوغان من داخل حزب العدالة والتنمية، أو بالأحرى من النواة الصلبة والمؤسسة له؛ فأكار وفيدان ليسا عضوين في الحزب، وصويلو انضم إليه عام 2012 فقط ويمثل تيارا أقرب للقومي منه إلى الجذور الفكرية للحزب.

 

وليس ذلك حكرا على المراقبين الخارجيين، وإنما الواقع يقول إن الحزب الحاكم لا يضم بين جنبيه اليوم -خاصة من المؤسسين- شخصية بقوة أحد هؤلاء الثلاثة، بحيث تمتلك الكاريزما والقوة والقدرة على جمع الحزب تحت رايته في مرحلة ما بعد أردوغان، ليحافظ على قوته ووحدته خاصة وأنه يجمع في هياكله القيادية وكوادره تيارات عدة ومتنافسة.

 

وعليه، من اللافت جدا والخطير أن حزبا إصلاحيا مثل العدالة والتنمية -بعد كل ما أنجزه لبلاده على مدى زهاء عقدين من الحكم- قد لا يستطيع تقديم مرشح لخلافة أردوغان من صفوفه وممن يعبّر عن مشروعه وأهدافه الأساسية و"إعدادات المصنع" خاصته. وهو أمر يطرح علامات استفهام حول مستقبل مشروع الحزب على المدى البعيد، فضلا عن مدى اقتراب أو ابتعاد الحزب عن مشروعه الأصلي ومنطلقاته الإصلاحية الأولى.

 

ومما يضاف إلى ذلك أن المعارضة ما زالت مستمرة في تحالفها الانتخابي، وتتحدث عن نيتها تقديم مرشح توافقي لها في الانتخابات الرئاسية القادمة، مما يزيد من مستوى التحدي أمام العدالة والتنمية، وأمام أردوغان على وجه التحديد، إذ يعني ذلك أن الانتخابات المقبلة لن تكون بسهولة سابقاتها وأنها تحمل تحديا من نوع مختلف هذه المرة.

 

ولذا، في الخلاصة، ثمة تحديات يواجهها العدالة والتنمية الحاكم في تركيا في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة ويواجهها مرشحه للرئاسيات الرئيس الحالي أردوغان، لكن التحدي الأبرز سيبقى مدى القدرة على الحفاظ على قوة الحزب ووحدته وتماسكه واستمرار مشروعه في مرحلة ما بعد أردوغان.

 

___________________

نقلا عن: الجزيرة نت