عزت النمر :

    يعيش عالمنا العربي واقعاً أسيفاً وهو يستقبل عام 2016 حيث تحل الذكرى المئوية لإتفاقية "سايكس ــ بيكو" التي وُقِعَّتْ بعد انهيار الدولة العثمانية التى وصفت إذ ذاك برجل أوروبا المريض.
    تلك الاتفاقية وتداعياتها أفرزت ترسيماً لحدود دول المنطقة في كيانات صغيرة , وحددت طبيعة النُظم التي تحكم تلك الكيانات الجديدة وفتحت الباب لنفوذ سَمَحَ للغرب أن يمارس الوصاية والتوجيه والاستزاف لموارد المنطقة وتقسيماتها الجديدة.
    كانت كذلك مقدمة وتهيئة لوعد بلفور المشئوم الذي اقتطع فلسطين من محيطها العربي والإسلامي ومنحها لقمة سائغة ووطن قومي لأرتال الصهاينة وعصابات يهود.
    انكسار الدولة العثمانية حينها وتوقيع هذا الاتفاق النجس لم ينقل المنطقة من فاعل الى مفعول به فقط, ولم يُعيد رسم حدود دوله وكياناته ويقطع أوصاله فحسب, إنما كان الأسوأ ــ من وجهة نظري ــ أنه حَوَّل هذا الكيان الكبير ذو الراية الواحدة الى دويلات وشراذم تنطلق من أهداف جزئية أو غايات محدودة تبعا لمصالح أنظمتها ومطامع قادتها.
    التَحَوَّلٌ الآخر الأشد سوءاً والأنكد ثماراً الذي أُريد للعرب في هذا الاتفاق هو الإنتقال من التمسك بالهوية إلى التبعية والبحث عن المصلحة والحاجة, وياليتها كانت مصلحة الأمة أو حاجة الشعوب !!. لكنها تَدَنَّت حتى أصبحت همومنا ومنطلقاتنا مصلحة الحاكم , وفي أوسع الأحوال ندور في فلك مصلحة أسرته الصغيرة أو بقاء الحكم في نسله الميمون أو قبيلته الغراء.
    التنازل عن الهوية كرابط شامل واستبدالها بقوميات كان بمثابة تنازل عن التاريخ وتضييع للجغرافيا, وهو ما حدث حيث أصبح العالم العربي والعالم الاسلامي بقايا دويلات صغيرة هشة ما سَهَّل ابتلاعها واحدة تلو الأخرى.
    لم يقف التنازل عند هذا الحد , لكننا تحولنا من الهوية الإسلامية الجامعة المنيعة الى قومية عربية حيناً من الزمن, ثم إلى قُطْرية ضيقة ودويلات متناحرة. ومازال مسار التردي حتى وصل الأمر منتهاه في مشهدنا الراهن ولحظتنا القاسية, حيث تولي أمر عالمنا العربي نماذج بليدة شائهة من حكام خونة تحمل أجندات فاسدة وغايات رديئة.
    يصعب على المرء اختيار بمن يبدأ لاستعراض عينة من هذه النماذج التي لا تحتاج الى دليل أو برهان.
    مصر التاريخ التي هي قلب العروبة وحصن الاسلام علاها سيسي تافه وصل الى حكم مصر رغم أهلها متسربلاً بكل صور العمالة والخيانة.
    ليس هذا فحسب بل يقودها هذا السيسي لمحو كل ما تبقى من هويتها , ويُدَمَّر بصورة منهجية كل مقدراتها الاستراتيجية وثرواتها الطبيعية حتى لكأننا نختلف حول ما إذا كان هذا هو الدور المطلوب منه والمكلف به أم أنه ثمرة غبائه وطبيعة عجزه وضعفه وسوء طويته.
    ما جاء به السيسي من وبال على مصر رغم قصر الفترة التي حكمها منذ إنقلابه القذر يجعل التساؤل الواجب هو : هل لو حكم مصر أعدى عُدَاها هلى كان يستطيع أن يعدو عليها وعلى شعبها وأن يطيح بماضيها وحاضرها وينسف مستقبلها كما يصنع السيسي الآن ؟!.
    سؤال آخر أشد مرارة : كم بقى لمصر من ضياع تحت حكم السيسي ؟! , وماذا ينتظر شعبها منه في قابل الأيام ؟!.
    ثمة حقيقة تجدر الإشارة اليها أن مصر تأتي في المرتبة الأسوأ في واقعنا الأسيف في طول العالم وعرضه . لكنها وإن كانت في المقدمة سوءاً وتردياً, إلا أن ذلك لا ينفي أن مرارات الواقع العربي لم تخلو منها دولة أو إمارة أو كيان إلا ما رحم ربي .
    لأسباب عديدة نثني بدولة الإمارات العربية لما يحمله حكامها من مستوى بالغ في الإتمار على هوية الأمة ومقدراتها. ومن خيانة وعمالة وتعاون فاضح مع كل أعدائها وكارهيها . حتى لكأننا نرى أصابع عيال زايد خلف كل كارثة محققة تحدث هنا أو هناك إنفاقاً وتدبيراً وتآمراً وكيداً.
    لم يقتصر مكرهم السئ على عالمنا العربي فحسب . بل وصلت مؤامراتهم ودسهم وحربهم المعلنة على هوية الأمة في كل نواحيها من عرب ومن عجم, حتى أفريقيا القارة السمراء لم تسلم من خيانتهم وعمالتهم في دولها البعيدة غير المؤثرة.
    قل مثل ذلك وإن إختلف حجم العمالة أو الكيد المشبوه في جُل الأنظمة في عالمنا العربي المعاصر شرَّقْت أو غرَّبت, من خليجه الذي كان ثائراً إلى محيطة الذي كان يوماً ما هادراً.
    في هذا الواقع الأسيف تحل علينا تلك الذكرى النكدة , والبعض يحذر من "سايكس ــ بيكو" جديدة يجري الإعداد لها ستطحن رحاها ما تبقى من عظام العرب إن كان بقي لهم عظام.
    سؤال ثقيل يفرض نفسه : ماذا يُنتظر لأمتنا بعد كل ما وصلنا اليه ؟!, وماذا يحمل لنا المستقبل المجهول في هذا الذكرى الأليمة ؟! , وماذا ياتُراه تحمل لنا أيادي الغدر أكثر مما نحن فيه ؟! , وهل مازال هناك دركات للتردى أم أننا وصلنا الى القاع ؟!.
    أسئلة كئيبة حقاً لكنها مشروعة ويفرضها الظرف الذي نعيشه , لكنها ليست واقعاً مفروضاً ؛ علينا الاستسلام له أو القبول به.
    إننا وإن كنا نرى فداحة الواقع الذي تعيشه الأمة إلا أننا نبصر كذلك نوعاً من التدافع الحاد بين باطل مازال يغشي وبين حق يسعى لأن يرى النور.
    هذا التدافع يحمل في طياته بشارات أمل واسع في مستقبل مضيئ وتغيير وَضَّاء.
    ان التمايز الحاد في الصفوف والمفاصلة المشرقة بين الحق والباطل , والصمود والتداعي الجاد حول راية الأمة وهويتها الإسلامية ليبشر بأننا نستشرف زمن التغيير والإنطلاق.
    انه ليس اصلاحاً جزئياً ولا تحولاً موضعياً لكنه بشارة بصحوة عاجلة وشيكة للأمة على أساس متين من بأس هويتها وشموخ رسالتها وقوة عقيدتها وعمق اسلامها وحضارتها.
    قد تَخَفَى هذه الصورة على كثيرين , لكنها يبصرها كل من تعَمَّق في خفايا اللحظة ومنحنيات الواقع , أو من رنا ببصره وبصيرته صوب السماء.
    ان صور الصمود الرائع وعدم الرضا بالواقع وورفض الظلم ومواجهة الطغيان لتملأ بثبات جوانب الصورة وتوحي ببشارات قرب التغيير ونهاية الاستبداد.
    اننا لم نرى في واقعنا استهانة بالموت وفرح بالبذل والتضحية وثبات على المبدأ وعزة وإباء وغيرة بمثل ما نراه الآن كماً وكيفا.
    كل هذا يمثل بشارات متواترة توحي بأمال عريضة في تحول يطال المشهد , وتغيير يُظهر في الصورة جوانب زاهية مضيئة, ويرسل رسالة تدعونا جميعاً أن نستعد , وأن يجتهد كل عامل مُجِّد , وأن يتجهز كل شريف نحرير وليستبشر كل مجاهد غيور.
    ولنرقب بعد ذلك لحظة التغيير والتحول ..
    ( وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ:  قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا ) ..
    [email protected]
    https://www.facebook.com/ezzat.elnemr.9